الفتنة المقدسة

التسامح الديني وأهمية إنهاء خطاب الكراهية بين المذاهب الإسلامية: قراءة معمّقة في الماضي والحاضر.

أحمد بن محمد العامري


منذ نشوء الخلافات المذهبية في العالم الإسلامي، باتت الأمة تواجه تحديات جسيمة تمزق وحدتها وتضعف قوتها، مما جعلها عرضة لاستغلال الأعداء الخارجيين، وفي الوقت الذي تتواصل فيه هذه الصراعات، يبرز خطاب الكراهية بين المذاهب كأحد أكبر التهديدات التي تواجه الأمة.
 باتت الحاجة ماسة اليوم شرعاً إلى إعادة النظر في هذه الخلافات والبحث عن طرق فعالة لإنهائها، لوقف التشتت وإعادة بناء جسور الوحدة بين مختلف أطياف المجتمع الإسلامي.، ومن خلال استقراء التاريخ واستشراف المستقبل، يتضح أن الاتحاد القائم على التسامح وقبول الآخر هو السبيل الوحيد لمواجهة المؤامرات الخارجية والحملات العدائية التي تستهدف الأمة.
تعود جذور الخلافات المذهبية في الإسلام إلى الفتنة الكبرى التي وقعت بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبدأت الأمة الإسلامية تتفكك سياسياً ومذهبياً مع مرور الزمن. رغم ذلك، شهدت فترات من التاريخ الإسلامي تعايشاً سلمياً بين المذاهب المختلفة، حيث كانت المدارس الفكرية تتفاعل وتتبادل الآراء بطريقة حضارية. من أبرز الأمثلة على هذا التعايش كان العصر الذهبي في بغداد خلال الخلافة العباسية، حينما كان العلماء من مختلف المذاهب والمدارس الفكرية يجتمعون ويتحاورون، مثلما حدث بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله والإمام جعفر الصادق عليه السلام.

لكن مع تراجع هذه الفترة الذهبية، بدأت الخلافات تأخذ منحى سياسياً، حيث تم استغلال المذاهب الدينية لأغراض سياسية من قبل الحكام والسلاطين.
 على سبيل المثال، في العصور اللاحقة وخاصة خلال العصر الصفوي في إيران والعثماني في تركيا، استخدمت المذاهب (السني والشيعي) كأدوات سياسية لتوطيد السلطة وتبرير النزاعات مع القوى الإقليمية الأخر، لم تكن الخلافات المذهبية مجرد مسألة عقائدية، إنما أصبحت سلاحاً سياسياً بيد الطامعين في السلطة، مما فتح الباب أمام تدخلات خارجية استغلت هذه الانقسامات لتحقيق مكاسبها.
من الدروس المستفادة في التاريخ الإسلامي ما حدث خلال الحملات الصليبية في القرون الوسطى، كانت أوروبا تعاني من صراعات داخلية ومذهبية في ذلك الوقت، لكنها توحدت خلف فكرة استعادة الأراضي المقدسة تحت لواء "الصليبية". وكون العالم الإسلامي كان يعاني من خلافات مذهبية وسياسية، مثل الصراع بين الفاطميين في مصر والعباسيين في بغداد، هذه الانقسامات جعلت من الأمة هدفاً سهلاً للصليبيين، ولكن من أبرز الدروس في هذا السياق هو التحول الذي حدث في مراحل متقدمة من الحروب الصليبية، حينما أدرك القادة المسلمون أهمية الوحدة، على سبيل المثال، تمكن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من توحيد الجبهة الإسلامية بمختلف مذاهبها وقومياتها لمواجهة الصليبيين، وكان نجاحه في تحرير القدس عام 1187 ليس فقط نصراً عسكرياّ، بل كان انتصاراً للوحدة والتسامح. فصلاح الدين لم يفرق بين المسلمين من المذاهب المختلفة، كما أنه تعامل بروح التسامح مع أبناء الوطن من المسيحيين وكذلك حمى اليهود.

واليوم، ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، تعود إلينا بعض صور الحروب الصليبية، لكن هذه المرة تحت غطاء سياسي واقتصادي معقد. ما يُعرف بـ"الحملة الصهيوصليبية" هنا نشير إلى التحالف بين الصهيونية السياسية وبعض القوى الغربية الكبرى، والتي تسعى إلى فرض سيطرتها على العالم العربي والإسلامي، هذه الحملة لا تستهدف ديناً واحداً أو مذهباً واحداً، بل تسعى إلى زرع الفتن الطائفية والمذهبية لتمزيق المجتمعات الإسلامية، وكذلك أفريقيا والقارة اللاتينية لهما نصيب من هذه الحملة.

في العراق، شهدنا بعد عام 2003 كيف تم تأجيج الفتنة السنية-الشيعية بشكل منهجي من قبل الاحتلال الأمريكي والقوى الغربية المتحالفة معه، كان الهدف واضحاً: تمزيق النسيج الاجتماعي للبلاد وإضعاف وحدتها الوطنية بخلق محصاصة مقيتة، والنتيجة كانت سنوات طويلة من الحروب الأهلية والعنف الطائفي الذي لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا. وبالمثل، شهدت سوريا واليمن ولبنان تدخلات خارجية استغلت الخلافات المذهبية والسياسية لتفجير الحروب الداخلية، وهذه الحملة الصهيوصليبية تنفذ أمامنا تحت صمت عربي مطبق.

إن دعم بعض القوى الغربية لما يمكن تسميته بالتحالف الصهيوصليبي لا يقتصر على دعم إسرائيل فقط، بل يمتد إلى دعم الأنظمة والمليشيات التي تساهم في زعزعة الاستقرار في العالم العربي. هذه القوى المتصهينة تستغل الفتن المذهبية لتبرير تدخلاتها السياسية والعسكرية في المنطقة. على سبيل المثال، دعم الغرب لبعض الأنظمة الاستبدادية أو الجماعات المسلحة التي تتبنى خطاباً مذهبياً متطرفاً هو جزء من استراتيجية أكبر تهدف إلى خلق حالة من الفوضى المستمرة التي تضعف القوى الإقليمية.

في ظل هذه التحديات الكبرى، يصبح التسامح الديني والوحدة بين المذاهب الإسلامية أمراً أكثر إلحاحاً وملزماً شرعاً من أي وقت مضى، يجب أن نعيد إحياء روح التسامح التي كانت تسود في العصور الإسلامية الذهبية، حيث كان الحوار بين المذاهب المختلفة وسيلة للإثراء الفكري والتطور الثقافي، فالمبادرات التي تسعى إلى تقريب وجهات النظر بين المذاهب مثل "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" في مصر، يجب أن تكون حجر الأساس في إعادة بناء الوحدة الإسلامية.

كما ينبغي على أهل الحكمة من قادة المجتمعات الإسلامية أن يلعبوا دوراً أكثر فاعلية في توجيه الرأي العام بعيداً عن خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، فالإعلام الاجتماعي، الذي أصبح اليوم ساحة رئيسية لتشكيل الرأي العام، يجب أن يُستخدم بشكل أفضل لنشر قيم التسامح والتعايش، وليس لإشعال الفتن.

إذا ما نظرنا إلى التجربة الأوروبية، نجد أن أوروبا أيضاً عانت من حروب طاحنة بين الطوائف المسيحية، خاصة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. هذه الحروب، التي عُرفت بحروب "الإصلاح البروتستانتي"، أدت إلى سفك دماء الملايين، لكن أوروبا خرجت من هذه الفتن المذهبية بعد أن أدرك قادتها أهمية الوحدة والتسامح وقاموا بتأسيس نظام سياسي يسمح بحرية الأديان ويمنع التمييز المذهبي.

هذا الدرس يمكن أن يكون مرشداً لنا في العالم الإسلامي، إذ إن الاتحاد لا يعني التخلي عن الهوية أو الانتماء المذهبي، بل يعني قبول الآخر والعمل على بناء مستقبل مشترك يقوم على مبادئ التسامح والعدالة.

إن مسؤولية إنهاء خطاب الكراهية بين المذاهب الإسلامية تقع على عاتق الجميع، بدءاً من علماء الدين والقادة السياسيين، مروراً بالمفكرين والمثقفين، وصولاً إلى الأفراد في المجتمع.
لا يمكن لأمة أن تحقق قوتها ووحدتها وهي ممزقة داخلياً. التاريخ والواقع يثبتان أن الاتحاد هو الحل الوحيد لمواجهة التحديات الكبرى، فقط من خلال التسامح والتفاهم نستطيع التصدي لهذا الإرهاب الفكري والسياسي الذي يسعى إلى استعبادنا وتفتيت مجتمعاتنا، يجب أن ندرك أن وحدة المصير ليست خياراً ثانوياً، بل هي ضرورة وجودية. بدونها، ستظل الأمة العربية والإسلامية ضعيفة ومستباحة.

ahmedalameri@live.com

تعليق عبر الفيس بوك