رُبَّ سؤالٍ بلَّغَ منالًا

 

د. صالح الفهدي

 

أخبرني أحد المسؤولين أنَّه تولَّى مسؤوليةً رفيعةً في إحدى الولايات؛ فعُرضَ عليه مسارُ شارعٍ في أحد المسارات المهمَّةِ وكان موقعُ الشارع بين وادٍ وجبل، ولهُ مخارجُ متعدِّدة، وقد أعدَّ مهندسو الشركة ذلك التصميم بعد دراسةٍ مستفيضةٍ، وجهدٍ جهيد.

يقول: فلمَّا عُرضَ عليَّ وطُلبَ رأيي في المشروع، اتصلتُ برجلٌ بسيطٍ غير متعلِّمٍ لكنَّهُ صاحبُ رؤيةٍ وحكمة وبعد نظر، طالبًا منه أن يمرَّ عليَّ، فعرضتُ له المشروع وطلبتُ رأيهُ فيه، فما كاد يُلقى نظره على الخرائط حتى قال: إن هذا المسار الذي وضعته الشركة للشارع مُكلفٌ جدًا، كما إن مسارهُ غير مناسب، وأقترحُ أن يكون على الجانب الآخر من الوادي، وبرَّر رأيه بحججٍ مقنعةٍ منها: أن الموقع الذي اقترحه سيخفف التكلفة المالية، ويقصِّر وقت التنفيذ، كما أنه سيقلِّل من المخارج، يقول المسؤول: خرجتُ معه لمعاينة الموقع، فاقتنعتُ برأيه ورجَّحتُه على مشروع الشركة المتخصصة التي استخفَّت برأيه في البداية ثم إن مهندسيها اقتنعوا أيضًا بكلامه، وهكذا نُفِّذ المشروع بناءً على فكرة رجلٍ بسيطٍ ليس له علاقة بهندسةِ الشوارعِ، ولا بمواصفاتها!

وبعد أن سمعتُ القصَّة، رويتُ له قصَّةً مشابهةً حكاها أحد الإيطاليين ويُدعى إرنستو سيرولي في حديثه إلى منصة "TED"، قائلًا: "قررنا نحن الإيطاليون أن نُعلّم أهل زامبيا كيفية إنتاج المحاصيل الزراعية، وصلنا هناك مُحمَّلين ببذور إيطالية إلى جنوب زامبيا، إلى ذلك الوادي الرائع المؤدي إلى نهر زامبيزي، وعلّمنا السكان المحليين كيفية زراعة الطماطم الإيطالية والكوسة وغيرها، وبالطبع لم يكن للسكان المحليين أدنى اهتمام بذلك، لذلك وجب علينا أن ندفع لهم أجورًا حتى يأتوا، ويعملوا، وفعلًا كانوا يأتون. وكنّا نستغرب لأمر السكان المحليين، الذين لا يزرعون في مثل هذا الوادي الخصب. لكن بدل أن نسألهم عن السبب الكامن وراء ذلك، قلنا لهم ببساطة "اشكروا الله على مجيئنا في الوقت المناسب تمامًا لإنقاذ الشعب الزامبي من الموت جوعا"، وبالطبع نمت محاصيل الطماطم، وكان الأمر مذهلًا حيث كنا نقول للزامبيين: "أنظروا ما أسهل الفلاحة!". فلمَّا نضجت الطماطم واحمرّ لونها خرج من النهر قرابة مئتي فرس بحر، دون سابق إنذار، والتهمت كل شئ..! فقلنا للزامبيين، "يا إلهي، أفراس النهر!" حينها أجاب الزامبيون، "نعم، ولهذا السبب لا توجد زراعة في هذه المنطقة". قلنا لهم: ولكن لما لم تخبرونا من قبل؟" فقالوا: لأنكم لم تسألوننا عن ذلك"!

الشاهد من هاتين القصَّتين الآتي:

أولًا: أنَّ لأهل المكان رأي معتبرٌ لا يجب تجاهلهُ، فهم الذين عرفوا تفاصيله، وحفظوا مداخله ومخارجه، ولهذا تقول العرب في ذلك "أهُل مكَّةَ أدرى بشعابها"، وهو مثلٌ يُضربُ في هذا الشَّأنِ، إذ هُم أدرى بأرضهم، وتضاريسها، وأجوائها، وطبيعة تربتها، وتوارثوا عن آبائهم وأجدادهم كل ما يتعلَّقُ بها، فإِن عُرضَ عليهم رأيٌ أفادوا بما علموا، فكان رأيهم ذا ثقلٍ ورشد، لا تضيعُ معه الجهود، ولا تُهدرُ الأموال.

ثانيًا: ليس المختصُّ هو دائمًا على حقٍّ في رأيهِ، وتصوُّره، إذ قد يغلبُ عليه رأي من إنسانٍ بسيط غير مختصٍّ فيكون أفضل منه، لهذا قالت العرب "خذوا الحكمة من أفواهِ المجانين" ويقصدون أنه لا حدود لطلب الحكمة، فلا تقتصرُ على عاقل، ولا تحُتكر لحكيم، بل قد يلفظُ بها إنسانٌ لا هو بعاقلٍ ولا رشيد.

ثالثا: أن التحدث عاليًا عن بعض الأفكار يُسهم في مشاركة الآخرين، وسماع وجهات نظرهم، فبعضها ينفَّذُ دون جدوى، ولو أنها طُرحت على رأيٍ واسعٍ في استفتاءٍ أو استبيانٍ لسمعت آراءٌ ذات وجاهة، على سبيل المثال حين أرى بعض جسور العبور التي أُنشئت للمشاة أقول لنفسي: ما الفائدة منها في منطقة تمتدُّ لعدة كيلومترات على جانبي الشارع، ولا أكاد أرى من يمشي عليها، مثل هذه الجسور مُكلفة وغير مُجدية، ولو أنها طُرحت لرأي عامٍ لما أُقيمت، ومنها أيضًا البوابات الضخمة في مدخل بعض الولايات على رغم هيبتها وحُسنها إلا أنها لم يُستفد منها، وغير ذلك من المشاريع.

وإنني أُشيد هُنا في هذا المحور بجائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري؛ إذ إنها تُشرك الجميع في فكرة التصميم، فيقدمون لها الأفكار، ويختار المحكِّمون أفضل التصاميم لمشروعٍ من المشروعات، وهو عينُ ما ندعو إليه هُنا من اتاحةِ فرصة واسعة يشتركُ فيها أكبرُ عددٍ ممكن.

رابعًا: دلَّت القصة الأولى التي استهلَّ بها المقال على حنكة المسؤول الذي تواصل مع رجلٍ عهد فيه الرأي الحكيم رغم أنه لا يحمل شهادة علمية، ورجَّح رأيه على رأي المهندسين المختصين في الشركة لأنَّ يملكُ رأيًا سديدًا، وجيهًا، وهذا درسٌ للمسؤول بأنَّ عليه أن لا يُعلي أمرَ مختصٍّ يدَّعي الكفاءة والعلم والتخصص فيستأثرُ بالأمر، بل عليه أن يستشير من يعرف فيهم الرشد الحنكة، وأضربُ على ذلك مثالًا في أحدى الجهات التي تعاقدت مع أحد الذين يزعمون بأنهم متخصصون في إعادة الهيكلة الإدارية فوضع الهيكل الإداري بين يديه وأطال وقصَّر فيه، وقص وألصق، ولم يكن لجميع عمله الذي قام به من شأنٍ يُذكر، إذ بعد أن استلم مستحقاته وغادر أُعيد كل شيءٍ إلى مكانه، لأن ذلك القادم من الخارج لا يعرفُ طبيعة الجهة التي وضع مشرطه على جسدِ هيكلها الإداري.

الحكمة والرُّشد، عتادٌ لا يستغني عنه كلُّ قائدٍ ومسؤول قبل أن يُقدمَ على عملٍ من الأعمال أو قرار من القرارات، ولا شك بأن أحد مصادرها ما جاءَ في هذه المقالة من وجوب استشارة أهل الرأي والسداد من الناس وإن كانوا من غير أهل الاختصاص.