أبعاد العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية

 

د. هيثم مزاحم **

 

تشهد الضفة الغربية المُحتلة عدوانًا إسرائيليًا وحشيًا يُشبه إلى حدٍ ما العدوان المستمر على قطاع غزة منذ 11 شهرًا. لكن العدوان على غزة لم يبدأ قبل أسبوعين فقط، فطوال فترة العدوان على غزة منذ هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، وقوات الاحتلال الإسرائيلي تعيث فسادًا في الضفة الغربية من اعتقالات واغتيالات وهجمات وتدمير منازل وحصار وحواجز وقطع طرقات؛ فجيش الاحتلال قد حرث الضفة وقلّبها رأسًا على عقب، كما يقوم هذه الأيام بحرث طرقات طولكرم وجنين والخليل.

ويُعد هذا العدوان الهمجي للاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الأكثر شراسةً ووحشية منذ عدوانه الذي أسماه عملية "السور الواقي" عام 2002، وتمثل في اجتياح الضفة، بعد الانتفاضة الثانية، بل إنَّ هذا العدوان أشد قسوةً، وهو يجري في ظل عدوان آخر، أكثر وحشيةً ودموية في قطاع غزة.

لكن لماذا تقوم إسرائيل بهذا العدوان على الضفة الغربية من دون سبب أو ذريعة. ففي غزة تذرعت بهجوم طوفان الأقصى ومقتل وأسر وجرح مئات الإسرائيليين وأنها تريد التخلص من حركة حماس والقضاء على بنيتها التنظيمية والعسكرية والصناعية والمؤسساتية، بعدما شيطنت الحركة أمام الرأي العام العالمي وخاصة الغربي ووصمتها بتهمة الإرهاب وبأنَّها ليست تهديدًا لإسرائيل فحسب؛ بل للغرب بأسره. أما الضفة فهي جزء منها تحت حكم السلطة الفلسطينية التي وقعت معها اتفاقات أوسلو وتقوم بالتنسيق الأمني معها لاعتقال المُقاومين وإحباط أية عمليات للُمقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال أو المستوطنين. بل إنَّ السلطة أدانت هجوم السابع من أكتوبر وقتل أسر الإسرائيليين ولامت وأدانت حركة حماس وحملتها مسؤولية العدوان الصهيوني على قطاع غزة وتدميره وإبادة شعبه.

ليس جديدًا القول إنَّ رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو لا يُفرق بين حركة فتح وحركة حماس، وبين السلطة في رام الله والسلطة الحاكمة في غزة. بالنسبة إليه هما وجهان لعملة واحدة، هي الشعب الفلسطيني الذي يُريد إبادته أو على الأقل تهجيره من الضفة وقطاع غزة ولاحقًا من أراضي 1948 بما يسمى "الترانسفير"، أي تهجير السكان الفلسطينيين في الضفة إلى ما يعتبره الصهاينة "الوطن البديل" في الأردن، وتهجير سكان غزة إلى سيناء، وسكان أراضي 1948 إلى لبنان وسوريا.

وتزعم إسرائيل أن إيران هي التي تقف وراء العنف في الضفة من خلال تمويل فصائل المقاومة، وهي ذريعة تطعن بوطنية الفلسطينيين في الضفة وهم يشاهدون المجازر الإسرائيلية بحق إخوانهم في غزة، كأن استشهاد 50 ألف فلسطيني لم يُحركهم، وما كانوا ليتحركوا لولا المال الإيراني.

والهجوم الإسرائيلي على الضفة هذه المرة لا يقتصر على جيش الاحتلال الإسرائيلي وجهاز "الشاباك" وما يسمى بـ"حرس الحدود"؛ بل هناك هجمات من الميليشيات الاستيطانية العنيفة المتطرفة، إذ يعمل الطرفان باتساق، ولا يعرقلان نشاط بعضهما البعض. ويرتدي المهاجمون من سكان المستوطنات اليهودية في الضفة الزيّ العسكري، فهم أعضاء في "فرق التدخل السريع" [فرق أمن المستوطنات المكونة من جنود احتياط في جيش الاحتلال].

وليس فقط المجازر في الضفة هي الدافع لتحرك المقاومين في الضفة, فسلطات الاحتلال قد صادرت ونهبت عشرات الآلاف من الدونمات خلال الأشهر الـ11 الماضية. فلم تبق تلة في الضفة، إلّا رُفع عليها علم إسرائيلي، أو أُنشئت عليها بؤرة استيطانية، ستُصبح مدينة يومًا ما. وعادت حواجز قوات الاحتلال أكثر كثافة بين مدن الضفة، فلا يمكن الانتقال من مكان إلى آخر في الضفة من دون الاصطدام بهذه الحواجز، والانتظار أمامها ساعات طويلة. كما أن ما لا يقلّ عن 150 ألف فلسطيني في الضفة قد فقدوا مصادر أرزاقهم، بعد حظر العمل في الكيان الإسرائيلي، عقابًا لهم بسبب هجوم طوفان الأقصى. فماذا كانت تتوقع إسرائيل من آثار 11 شهرًا من البطالة بين عمال الضفة؟

وبحسب معطيات الأمم المتحدة، استشهد 630 فلسطينيًا في الضفة منذ السابع من أكتوبر، وقتل 140 منهم بواسطة هجمات لمسيرات الاحتلال على غرار ما يحصل في قطاع غزة.

هذا العدوان الدموي على الضفة، المتواصل منذ أسابيع عدة، قد يتطور إلى حرب أوسع تشنها الحكومة الإسرائيلية المتطرفة. فجيش الاحتلال يزعم أنه يسعى لتدمير الآلاف من قطع السلاح، والقضاء على قادة المنظمات الفلسطينية في مخيمات اللاجئين، وإحباط هجمات المقاومة، في عملية استباقية، قد لا يتكرر سيناريو طوفان الأقصى في الضفة.

يأتي رد المقاومة بعمليات استشهادية وتفجير سيارات وعمليات نوعية ليذكر الإسرائيليين بالانتفاضة الثانية، وهي قد تبشّر باستراتيجيا فلسطينية جديدة تهدف إلى القيام بانتفاضة ثالثة.

لكن بعض المراقبين الإسرائيليين يرى أنهه "لم تنشأ بعد في وسط الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية الظروف المطلوبة من أجل القيام بانتفاضة مدنية واسعة النطاق، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة منذ بداية الحرب في غزة، وخسارة نحو 150 ألف وظيفة في إسرائيل، والمصاعب الكبيرة في تنقل الفلسطينيين، والضرر الكبير الذي لحِق بميزانية السلطة الفلسطينية، والعقبات الكثيرة المفروضة على  حركة التجارة بين الكيان الإسرائيلي والضفة.

وبحسب مصادر في حركة "فتح" تحدثت لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإنَّ ضبط النفس لدى فلسطينيي الضفة ناجم عن أنهم لا يريدون أن تتحول الضفة إلى غزة؛ فالدمار الذي أحدثته قوات الاحتلال الإسرائيلي في القطاع، واستشهاد نحو 50 ألف شخص مُعظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين، كل ذلك يخيف السكان ويردعهم.  وعلى الرغم من أنَّ العدوان على غزة لم ينجح حتى الآن في جرّ الضفة الغربية- وخصوصًا قيادة منظمة التحرير و"فتح"- إلى "توحيد الساحات"، لكن الحرب الدائرة التي تشنّها العصابات المتوحشة والإرهاب اليهودي ضد البلدات الفلسطينية مع جيش الاحتلال، إضافة إلى مسعى الصهاينة للسيطرة على الحرم في المسجد الأقصى، قد يؤديان إلى إنضاج الظروف لنشوب انتفاضة فلسطينية واسعة في الضفة التي تضم ثلاثة ملايين فلسطيني، يرزحون تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي المُباشر.

نتنياهو وشركاؤه يريدون استمرار الاحتلال للضفة وقطاع غزة والقضاء على أي أمل لقيام دولة فلسطينية فيهما طبقًا للقرارات الدولية واتفاقات أوسلو ووعود حل الدولتين، تمهيدًا لخلق وقائع جديدة على الأرض تعزز من وجود المستوطنين والمستوطنات وتقلص عدد الفلسطينيين في الضفة، بحيث يصبح الفلسطينيون أقلية داخل الأراضي المحتلة عام 1967، كما هو حالهم في الأراضي المحتلة عام 1948، مما يسهل عملية ضم الضفة إلى الكيان الإسرائيلي، بعد ضم القدس وبعض مناطق الضفة والجولان السوري.

لا شك أنَّ الصمت الدولي والعجز العربي والإسلامي والدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل، وغياب السلطة الفلسطينية، كلها عوامل شجّعت نتنياهو على استغلال الحرب في غزة لتنفيذ أهدافه التوسعية والإقصائية في الضفة والقدس الشرقية.

**رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان