قبل أن تتمكن وسائل التواصل من قيمنا!

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

دخلت وسائل التواصل الاجتماعي حياتنا بشكل مخيف حتى أصبحنا عالقين فيها نكاد لا نستطيع التخلص من متابعتها، وباتت نافذة لكل فرد منَّا نحو العالم وما يدور فيه، وأضحى هذا العالم الافتراضي مكاناً نعيش فيه، متنقلون داخله من مكان إلى آخر، نطلع على أخبار العالم ونعيش في قلب الحدث مهما كان بعيدًا، ونتفاعل مع أناس لا نعرفهم ولم نلتقِ بهم في حياتنا الواقعية، ونبني علاقات افتراضية وكأننا في أحد أفلام الخيال العلمي.

هذه حقيقة واقعية لم نكن لنصدقها لو قيلت لنا قبل 25 عامًا، وعندما أعود بالذاكرة إلى فترة تسعينيات القرن الماضي عندما بدأت تتحرك الثورة التكنولوجية الرقمية وبداية ظهور الهواتف المحمولة، كان أغلبنا يتوجس مما هو قادم، لقد أصبح بالإمكان العثور علينا ومزاحمة حياتنا واقتحام خصوصياتنا دون الحاجة لعناء البحث عنَّا ولم يعد بإمكاننا الحصول على مساحة خاصة نمارس فيها حياتنا التي اعتدنا عليها، وننعم بوقت للقراءة والرياضة والتفكير والابتعاد عن ضجيج الحياة والعيش في عالمنا الخاص.

لقد فقدنا كثيراً من الأشياء المميزة التي كانت تبهج حياتنا البسيطة، حتى لذة مصادفة شخص لم نلتقِ به لفترة طويلة فقدناها فقد أصبح لدينا القدرة على الوصول لأي فرد في أي مكان وفي أي وقت رغمًا عنه، ولم يطل بنا الوضع طويلًا حتى ظهرت المجتمعات الافتراضية بظهور تطبيقات الهواتف الذكية ومعها فقدنا آخر معاقل الخصوصية وسقطت قلاع الحياة الخاصة ومعها سقطت كل ممارساتنا اليومية التي كنَّا نستمتع بها وأصبح رتم الحياة سريعًا خاليا من الذكريات والممارسات الاجتماعية التي صنعت سلوكنا وأسست قيمنا.

لقد تركنا جلسة الأسرة واجتماعاتها حتى وإن كنَّا حاضرين أجسادًا إلا أننا نعيش في عالمنا الافتراضي الخاص الذي نتفاعل فيه مع أشخاص آخرين، لقد ابتعدنا عن المساجد وحلقات الدروس وعن السبلة وما يدور فيها من رص رصين للعادات والتقاليد وترسيخ لسلوكيات الآباء والأجداد وتدريب على فن الحديث وغرس للسمت والأصول، لقد هجرنا الزيارات العائلية وعيادة المرضى ومواساة القريب والوقوف مع الناس واكتفينا بالنذر اليسير من أداء الواجبات وعن طريق وسائل التواصل الاجتماعي فأصبحت رسالة التعزية كافية والاتصال قمة التعبير عن صادق المشاعر.

لقد تغلغلت هذه التقنيات في أدق تفاصيل حياتنا وأصبحنا نعرف كافة تفاصيل حياة الآخرين بل أصبحنا متطلعين لمعرفة ماذا سوف يفطر فلان وماذا سوف يتغدى علان وأين سيقضي إجازته وتعدى الأمر حتى وصل لمرحلة لا تليق بكتابتها في هذا المكان، وما هذا إلا انعكاس لما وصلت إليه حياتنا من سطحية، وفقدان للمعنى والهدف من الحياة، وانجرار وراء ما حملته هذه التقنيات من سلبيات، وانغماس متناهٍ فيها واستسلام تام لما فرضته علينا من واقع جديد، دون أدنى مقاومة منَّا للتخلص من هذه السموم التي أفسدت حياتنا.

إنَّ مشكلة هذه الوسائل الكبرى تكمن في صعوبة السيطرة عليها ووصولها إلى مرحلة الإدمان بشكل سريع وهو ما أطلق عليه "الإدمان الإلكتروني"، وصنف كأحد أخطر الاضطرابات النفسية وأشدها صعوبة في الشفاء، وهذا الأدمان له عواقب نفسية وصحية على الفرد والمجتمع بحد سواء وربما سوف أتحدث عنها في مقال مستقل لاحقًا، ولعل أهم آثار هذا الإدمان أنه أصبح الموجه لسلوكنا والغارس لقيمنا وتربيتنا وتنشئتنا.

نعم.. لقد انتشرت قيم وسائل التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع وأفسدت ما تقوم به الأسرة والمدرسة والمجتمع من عمل في هذا الجانب، وأصبح المجتمع يعاني من الأفكار الدخيلة والسلوكيات المستوردة والثقافة الغريبة التي لم تكن تصل إلينا سابقًا، وظهرت سلوكيات خاطئة كثيرة بين النشء واستسلمت الأسر لهذا الواقع الجديد عندما رأت أنَّ الحال متشابه مع الجميع، والخوف الأكبر أن يفقد المجتمع هويته وعندها لن يكون بمقدورنا عمل أي شيء اتجاه هذا الوضع الذي فرضته التكنولوجيا علينا.

وقبل أن تتمكن وسائل التواصل الاجتماعي ومجتمعاتها الافتراضية من قيمنا يجب علينا أن نعيد مفهوم التربية وأن نصيغ فلسفتنا الخاصة بالتعليم وفق المعطيات الحالية وأن نعيد تعريف أدوار الأسرة ومؤسسات المجتمع المدني وفق السياق المعاصر الذي نعيشه، وعلينا أن نتفاعل مع ما يحدث حولنا حتى نستطيع المحافظة على أدوارنا الحقيقية في التربية وغرس القيم سواء كمربين أو كمؤسسات معنية بذلك، ويجب أن نستفيد من التكنولوجيا فيما هو مفيد وهذا مجال واسع جدًا لو تمَّ استغلاله بالصورة المناسبة.

نعم.. لقد ساهمت التكنولوجيا في تسهيل حياتنا وهذا أمر لا ينكره عاقل، ولكن وكما هو الحال في كل تقنية لها جانبان فالسيارة التي اختصرت علينا المسافات والزمن هي نفسها صندوق الموت المتحرك إذا ما استخدمت بشكل خاطئ، وقس على ذلك كل التقنيات، وهنا محور ومفصل الحديث كله.

تعليق عبر الفيس بوك