من المسؤول عن العمالة السائبة؟

 

 

سالم بن نجيم البادي

 

قُدِّرَ لي أن أكون حاضرًا لجلسات مُحاكمة عمال وافدين في إحدى المحاكم، وكانت كل الجلسات في ذلك اليوم مُخصصة للعمال الوافدين فيما يبدو، وكانت التهم الموجهة لهم تغيير محل إقامتهم من مُحافظة لأخرى، والعمل في مهن غير مُصرّح لهم بالعمل فيها.

شاهدت هؤلاء العمال وهُم في قفص الاتهام وأمام هيبة القاضي والمكان والحضور، وعلى وجوههم سيماء الذل والمسكنة والخجل والخوف والقلق، وقد نكّسوا رؤوسهم، وكانت الكلمات تخرج من أفواههم بصعوبة بالغة، وهم ينظرون إلى المترجم تارة وإلى القاضي تارة أخرى بعيون بائسة. لم استطع إخفاء تعاطفي مع هؤلاء، ولقد تخيلت وأنا في موقف المُتفرِّج، البلاد التي جاؤوا منها طلبًا للرزق؛ إذ لا شك أن الحاجة والفقر والرغبة في تغيير حالهم وحال أسرهم إلى الأفضل، من بين أسباب مغادرة أوطانهم ومفارقة زوجاتهم وأطفالهم وأسرهم، فالغُربة مُوجعة، والسفر من أجل العمل عذاب، والبُعد عن الأحباب همٌّ وغمٌّ.

وهذا يقودنا إلى السؤال عن سبب هروب العامل الوافد من كفيله المواطن، وعن أسباب تنقُّله من مكان لآخر، والعمل في مهن مختلفة، مع معرفته أنَّ ذلك مخالف للقانون، وقد يُعرِّضه للسجن أو الإبعاد من البلد، وهو يعيش في خوف دائم وترقب، يخاف من الشرطة ومن فرق التفتيش ومن الكفيل ومن الوشاة! ومعروف عن الإنسان حاجته إلى الأمن والأمان والميل إلى الاستقرار، ومع ذلك يُجازف هؤلاء بالعمل بعيدًا عن الكفيل صاحب العمل.

هنا لا أحاول تبرير هروب هذا العامل ولا أرحب بوجود العمالة الوافدة السائبة، لكنني أطرح القضية من ناحية إنسانية بحتة للبحث عن الأسباب وإيجاد الحلول المناسبة لحلها. لقد كانت أعدادهم كبيرة والتهمة واحدة: تغيير مكان الإقامة والعمل في مهن غير مصرح لهم العمل بها، وهذا يدل على أن هناك مشكلة ما!

هل نلوم المواطن الذي جلب هذا العامل وهو لا ينوي تشغيله في المهنة التي أحضره لشغلها وكان هدفه فقط الحصول على مبلغ زهيد من المال مُقابِل الكفالة وعادة ما يكون 20 ريالًا في نهاية كل شهر، بعد أن يتركه سائبًا يبحث عن عمل.

ومع افتراض أن المواطن الكفيل أحضر هذا العامل ليشغل مهنة مُعينة، فهل هيّأ له الظروف المناسبة وبيئة العمل التي تليق بإنسانيته؟ وهل أعطاه الراتب المعقول؟ وهل حظي هذا العامل بمعاملة إنسانية لائقة؟ وهل حصل على سكن مناسب؟

علينا الاعتراف بأنَّ بعضنا ينظر إلى العامل الوافد نظرة دونية، وفيها تعالٍ وقلة احترام، لا نُريد دائمًا أن نُزكّي أنفسنا، ونضع كل اللوم على العامل الوافد، ولا أن نُزكّي كل العمال الذين يهربون من الكفيل، فمنهم من يتمرد ويتطلع إلى الكسب السريع والكثير، حتى وإن كان بطرق مُخالفة للقانون، ولو كان حاصلًا على حقوقه كاملة ويجد المعاملة الكريمة من صاحب العمل.

إننا نحتاج إلى وقفات صادقة وصريحة وشفافة وبعيدًا عن المثالية وتزكية النفس، حتى نعرف الأسباب الحقيقية التي تجعل العامل الوافد يسلك طريق الشتات الشائك، وهو يبحث عن لقمة العيش لتلك الأفواه الجائعة ربما والتي تركها في بلده.

إن أولئك العمال والذين رأيتهم في قفص الاتهام في تلك المحكمة وأمثالهم يستحقون مَنَّا البحث عن الأسباب العميقة التي أوصلتهم إلى ذلك الموقف الصعب.

هنا أتحدث عن الإنسان والإنسانية، ولا أتحدث عن القانون ولا أتدخل في أحكام القضاء، لقد ظلت تلك الوجوه البائسة التي رأيتها في المحكمة، تَظهر لي كُلما شاهدت عاملًا وافدًا، وكأنَّ كل الوجوه تُخفي الكثير من الحكايات والأمنيات وعذابات الغربة والأشواق والخوف من المجهول والتفكير في احتمالية العودة إلى بلدانهم صفر اليدين، بعدما كانت لديهم آمال عريضة ووعود مشرقة قطعهوها على أنفسهم لأفراد أسرهم.. إنها مشاعر الإنسان تجاه أخيه الإنسان، هي التي تجعلنا نتضامن مع الإنسان لأنه إنسان.. وكفى!