محاكمة طبيب!

 

د. سليمان المحذوري

abualazher@gmail.com

 

من الأمور التي تحدث في الوسط الطبي بين فينة وأخرى الأخطاء الطبية. وخطأ الطبيب هو "فعل أتاه الطبيب أو لم يفعله على خلاف ما تقضيه مهنة وواجبات مهنة الطب والقواعد والأصول العلميّة والفنيّة المتعارف عليها في هذه المهنة".

ولا شكّ مطلقًا في الالتزام المهني والأخلاقي للأطباء رغم الضغوطات العالية التي يتعرضون لها بسبب طبيعة عملهم؛ إلّا أنه ولأسباب متعددة فإنّ الأخطاء الطبية واردة حالها كحال الأخطاء الأخرى نتيجة للعمل البشري وإن كانت الأخطاء الطبية لها تبعات جسيمة، وخسائر جسدية ونفسية من فقد الأرواح أو التسبب في حدوث مضاعفات صحيّة طيلة حياة المريض أو حدوث عاهة مستديمة وما إلى ذلك، وهذا أمر لا جدال فيه.

وعند حدوث أي خطأ طبي في المؤسسات الصحيّة، هناك بروتكولات تُتبع في هذا الشأن مثل عرض المسألة على لجنة طبية مُختصة تُصدر تقريرها حول الواقعة محل الشكوى. وبناءً عليه تُتخذ قرارات وفقًا لنتيجة التحقيق النهائية. وفي هذا الصدد سأحكي لكم قصة واقعية حدثت مع طبيبة عُمانية وهي اختصاصية أمراض نساء وولادة. ابتدأت القصة في شهر ديسمبر 2021 عندما تمَّ توجيه "رسالة نصح" لها من قبل اللجنة الطبية بموجب الخطأ الطبي المنسوب لها ضمن مسؤوليتها؛ وذلك بعد التحقيق في خطأ طبي حدث في المستشفى الذي تعمل فيه. فيما تمَّ إنذار الطبيبة الوافدة رئيسة الفريق الطبي والمسؤولة المُباشرة عن الخطأ الطبي المُشار إليه وإنهاء خدماتها. وإلى هنا فالأمور تبدو طبيعية والطبيب في نهاية المطاف بشر يُصيب ويُخطئ، ويكون في موضع مساءلة إذا ما ثبت عليه الخطأ. وفي شهر يناير 2022، وصل الطبيبة استدعاء من مكتب المدعي العام كونها هي الطبيبة الموجودة من الطاقم الطبي المُشرف على حالة المريضة للإدلاء بأقوالها إزاء قضية خطأ طبي مرفوعة ضدها من قبل المريضة المُتضررة جرّاء هذا الخطأ الطبي، رغم أنها كانت طبيبة عامة آنذاك ضمن الفريق الطبي المُشرف على الحالة؛ ولم تكن الطبيبة المسؤولة عن مُتابعة أحوال المريضة.

عمومًا في شهر إبريل من نفس العام وصلها أمر تكليف بالحضور إلى المحكمة الإبتدائية وبعد مداولات ما بين خمس إلى ست جلسات صدر حكم المحكمة ببراءة الطبيبة من التهمة المنسوبة لها في أكتوبر 2023. بعدها أُحيلت القضية من الإدعاء العام إلى محكمة الاستئناف وحضرت الطبيبة كذلك جلسات عديدة بسبب تأجيل الجلسات واستدعاء الشهود. ولكم أن تتخيلوا حجم المعاناة النفسية للطبيبة طوال هذه المدة حتى صدور الحكم النهائي في قضية خطأ طبي غير مقصود هذا أولًا، وثانيًا وجود الطبيبة وسط جميع المتهمين بمختلف أنواع قضاياهم. وبعد حوالي سنتين ونصف السنة من تداول القضية بين أروقة المحاكم حكمت محكمة الاستئناف بتأييد حكم المحكمة الإبتدائية وبراءة الطبيبة بتاريخ 9 يوليو 2024.

ختامًا.. من خلال سرد تلكم القصة التي عايشتُ تفاصيلها خطوة بخطوة أود الإشارة إلى أنُها حالة ضمن عشرات الحالات المشابهة لها، إن لم تكن أكثر، وهذه القضايا مستمرة ضد الكادر الصحي، وتبرئة الطبيب أو إدانته مرده إلى المؤسسات القضائية. ومن حيث المبدأ لا شك مطلقًا في عدالة القضاء إزاء أي قضية تُرفع إليه، وتحرّي الدقة في ملابساتها، كما إنّ الخطأ الطبي وارد وللمريض حق تام في المطالبة بحقه؛ بيد أنّ هناك عدة جوانب ينبغي الوقوف عليها، وهنا أود التركيز على مسألة طول مدة مداولات قضايا الأخطاء الطبية التي تُشكل ضغوطًا نفسية على الأطباء لا يعلمها إلّا الله، ويُمكن أن يُؤثر ذلك سلبًا على مسيرتهم المهنية. إضافة إلى ذلك استدعاء الأطباء إلى قاعة المحكمة للإدلاء بشهادتهم لعدة مرات قد يؤدّي إلى تعطيل مهامهم الطبية في معاينة ومتابعة مرضاهم، لذا فإنِّه من المُؤمل إيجاد آلية مناسبة للتعامل مع هذا النوع من القضايا، وسرعة البت فيها تلافيًا لتلك النتائج.