أُمنية رجل مريض

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

منذ مدة طويلة لم أزُر المستشفى، بالرغم من أني دائمًا، أعد بأني سأعود لزيارة الرفاق بين حين وحين، وهذه المرة، الزيارة كانت بالمساء؛ حيث يعج المستشفى بالزوار لزيارة المرضى، وعندما دخلت المستشفى راودني ذلك الشعور عن حنين الذكريات التي تجمعني بكل شيء في هذا المستشفى، سنين من الذكريات ومواقف عديدة لا تزال في الذاكرة قبل الرحيل الى تجربة اخرى قادتنا اليها أقدارنا، المستشفى كما هو جدرانه، الحوائط التي تفصل الأقسام، الرواق والممرات، هذا الجسد.. أما الروح فتلك هي المتمثلة في الكوادر الطبية والطبية المساعدة وكوادر من الإداريين، كلٌ يؤدي دوره حسب المهام المؤكلة اليه.

قد يعتقد البعض خطأ أن المستشفيات هي أماكن تبعث في النفوس الاكتئاب والحزن، لكن في الحقيقة المستشقيات بتلك المحاليل أو مع مشارط الجراحين والإبر والأجهزة الطبية التي لا تحصى ولا تعد، أو مع رائحة الأدوية التي تزكم الأنوف؛ بل حتى تلك  المعاطف ذات اللون الأبيض التي يتوارى خلفها الأطباء من تعب هذه المهنة الشاقة، هي ما يبعث الأمل والفرح في النفوس، فقد يأتي إليها المريض وهو في قمة اليأس والإحباط ويخرج منها وهو في قمة الفرح والانبساط.

عندما وصلت إلى الجناح، تعمدت الانتظار لحين خروج كافة الزائرين، وبعد التحايا، لم يترك لي الفرصة لكي أسأله عن حاله، كبقية المرضى عندما يزورهم أحدهم، فقد استعرض لي شريط الذكريات منذ الطفولة وبعدها أيام اللهو والجد والركض في شوارع مدينة الدراسة وبعدها الالتحاق بالعمل، وبعدها الأسرة وواجباتها، واختتم بقدوم فصل الخريف، طريق فيه من الحزن والفرح الكثير.

تمنيت في تلك اللحظة أن يأتي أحدهم، حتى يتوقف قبل أن يتحدث عن الوداع والفراق ولكنه واصل الحديث بحديث يُدمي القلب.

طلب مني أن أكتب عن الحب، فهو كما يقول عهدني أكتب منذ سبورة الفصل والطباشير، فهو يريد أن يودع أحدهم بوداع يليق به بعد هذه السنين، بعد أن أصبح هذا الحب منذ زمن مستحيلًا آخر من المستحيلات التي لن تتحقق ولن تكون له أي نهاية سعيدة، ولكن هذا الحب لم يفارق روحه ووجدانه، فلقد أحب حبًا لم يحبه أحدٌ من قبله وربما لن يأتي أحد يحب حبًا مثله.

طلب مني وهو يدعي بأنه قد يودع هذه الحياة، أن أكتب أنه ظل وفيًا على عهده رغم مرارة البعد وهول الفراق؛ فأي حب هذا الذي يسكن صدر هذا الذي أصبح جسدًا نحيلًا بسبب المرض وهو لا يكاد يقوى على الكلام، وأي وفاء هذا والشمس قد شارفت على المغيب.

انتهى وقت الزيارة كما أعلن الحارس بصوته الرخيم، وودّعته على وعد بأن أكتب وأرسل له ما كتبت لعله يقرأ ما كتبتُ.

وقبل أن أغادر صادفت أحد الأطباء الذين أعرفهم فسألته عن حال صاحبي، فرد وهو يقرأ من الحاسوب الذي أمامه، بأنه مرَّ بأيام عصيبة، ولكنه يظن الآن أنه سيكون بخير.

فشكرته، وتبسمت وهو لا يعرف سر هذه الابتسامة، بأني قد قطعت وعدًا على نفسي قبل لحظات ولن أستطيع أن أحنث بهذا الوعد؛ وذلك لتحقيق أمنية رجل مريض بأن أكتب عن الليل، برغم أن شمس هذا اليوم، ربما قد أُجِّلت إلى حين وقت المغيب.

** خبير في الشؤون المالية

تعليق عبر الفيس بوك