قصة الوادي الصغير (6)

 

الكاتب : حمد الناصري

ترأس فالع " الزعيم الجديد " لسيح المالح المتحد" اجتماعاً مُوسعاً للحارات العشر، وقد تحدّث بثقة، مُبدياً اسْتعداده للوقوف في وجه الغُرباء ذو الوجوه الحُمر المُكتنزة والتحقيق في اختفاء أخيه "فلوع" حرصاً على مصلحة سيح المالح المُتحد وتماسكه و وحدته :

ـ أشكركم على اختياركم لي لهذه المُهمة الصعبة والمسؤولية الجسيمة، ولأنّ المُتحد قام على الشُورى وما أجْمَع عليه الرجال ، فإني أجد نفسي مُلزماً بما أجمعوا عليه ومُلتزماً بمبادئ وأسُس لِلمُتحد ، وأُشِيد بوقفتكم واختياركم لبقاء المُتّحد ثابتاً ، قائماً كما شرعتم في بنائه.

وأرى أنّ علينا تكليف مجموعة من رجالنا يتولُّون مسؤولية البحث والتقصّي عن أخي غير الشقيق فلّوع.. ثم نعرض ما يُقدموه من تفاصيل إلى مجلس كبار المُتحد، لِتَنظر كيف يُمكن تسيير ما تمّ الاتفاق عليه مع الغُرباء البِيْض ذو العيون الزرقاء ، فمن حقّنا كمتحد ، تقييم ما اتفقنا عليه ، وليس لأحد من الغُرباء التدخل في شؤوننا.؛

الغُرباء ذو الوجوه الحُمر المُكتنزة، يُخالفون إجْماعنا ونمط الحياة ويَقسون على مُجتمعاتنا، ولهم مصالح دفينة لا يُمكن الوثوق بها وأطماع واضحة في تُراثنا الاصيل بجميع جوانبه وتفاصيله.. كمحاولاتهم معرفة أصولنا وألواننا لغاية لا تبتعد عن تعطيل مُتّحدنا وخلق الفوضى في مجتمع الوادي الصغير والقريتين ظناً منهم أنّ ذلك سيؤدي الى فتح المجال أمامهم للهيمنة والتلاعب في أدوار مصالحنا ومنافع حياتنا المُختلفة عنهم، وقد خاب مَسْعاهم.. وعليه، فإنني أرى أنْ نقطع تعاوننا معهم حتى ولو كان من باب مُبادلة التجارة، فإنْ كانت تلك التجارة تجلب لنا الشرٌ  ، فالخير في تركها فوراً.

ولكي نجعل المُتحد بعيداً عن الخطر، علينا أنْ نجعل بيننا وبينهم وسيطاً، كمجتمع الوادي أو مِن إحدى القريتين ، حتى إذا ما أرادوا بنا شراً صَبّوا جام غضبهم على ذلك الوسيط.

انبرى رجل يثق فيه فارع، وكان يُمَنّيه أنْ يكون خليفته من بَعده فقال:

ـ خيوط المُؤامرة الكبرى في السيح المُتحد، لن تتوقف والخيانة ستنعكس علينا بالويْل والثُبور، بل هي ثُغرة حقيقية يَستعملها الغير للنّيل مِنا ، ولن نسمح لأحد أنْ يُباغتنا ونحن عنه غافلون.؛

وزعيمنا "فالع" خير خلف لأسْوأ سَلف، ذلك السلف "فلّوع" الذي أراد خيانتنا ، فخانوه من وثق بهم.

رد شخص آخر تبدو عليه ملامح البأس والقوة بغضب:

ـ إن ثقتنا برجالنا، ثابتة لا تتزعزع ونحن مُطمئنون لوحدتنا وتماسكنا، ولكنّ حادثة الاختطاف جديدة على مُجتمعنا فلا بُدّ أنْ نكون على يقظة وعلى قدر عالٍ من المسؤولية ، لا نُريد كلاماً ولا خطابات ، بل نُريد مواقفا وأفعالاً ، فرجال المُتحد يجب أنْ يكونوا معاً مُتماسكون بقوة مُعتقدهم وأصالة تُراثهم وإيمانهم في مُواجهة عدوّهم، سواء من الداخل أو من الغُرباء ، لا فرق بينهم  شرقيون كانوا أم غربيون والحذر الحذر من الغير الذي يكنّ لكم البُغض والكراهية ويَحقد على المُتحد الذي يقوم على موروث أصيل وعلى قيم وتقاليد الحارات العشر ، وإني أرى وجوب الأخذ بالحيطة وأنْ نكون على أَهِبَة واستعداد دائم ومُستمر سواء أكُنّا في سِلْم وسلام داخلي أو كُنّا في حالة حرب مع الغُرباء.؛

وأول هذا الاستعداد، تطبيق العِقاب والقصاص بمرتكبي جريمة الخيانة وبيع الأسْرار والتآمر على المُجتمع والجماعة والفرد والمُتحد ولا نكتفي بالعُقوبة قصاصاً بالجُرم المشهود.. فمن يَهرب ويترك أهله.. خائن ويستحق الموت.

إنّ المُحاسبة يجب أنْ تبْدأ من هذه الحادثة الشنيعة ودون استثناء أحداً عن أحد، كبيراً أو صغيراً ، ، شيخاً او خادماً  ،كبيراً أو صغيراً ، فالكُل مَسؤولون عمّا أؤتُمنوا عليه.؛ فالمُتحد أمانة ، والمخاطر حالكة ومُظلمة ، والآثمون كُثُر ، وفي هذه الأيام ، انكشفت أمام أعيننا خيانات لم نكن نظنّ أنها موجودة من قبل ، كالذي أعْطيناهُ ثِقَتنا وولّيْناهُ مسؤوليتنا  وأودعْنا أمانة مُجتمعنا وأرضنا في يده، وخانَ العهد ثم هرب ومن فعَل تلك الفِعْلة لنْ يَنجوا من القصاص.

قال رجل أشعث الشّعر مَنفوش، لا يَعتمر عمامة مثل باقي الرجال ، وإنّما يضع قطعة صُوف تقليدية على راسه ، عُرفت باسم عُقلة الراس وانتشرت بين الحارات العشر والقريتين الأعلى والتراث بينما تجد في بقية الاحياء يَعتمرون العمامة إلى جانب أهل  الوادي الصغير وقرية البحر بأقصى الوادي:

ـ أنا مُتأكد أنّ هروب "فلّوع" سوف تكون له عواقب كثيرة وخطيرة منها توسع قاعدة الأعداء لِمُحِيطنا الجُغرافي ، الوادي والقريتين والسيح المُتحد وقرية البحر وما جاورها، وسوف يَنغمس رجالاتنا في عُمق الثّارات والاحقاد.. ولذا أرى وجوب القصاص الحازم.

وأنا سأتحمّل مرارة قولي ولكن صراحتي وإنْ قسَتْ عليكم ، لكنها مشاهد من حقيقة واقعة ، وأنّ هُروب "فلّوع" تَحْمِل أكثر من خوف وقلق وفوضى، وتَحْمِل في طيّها الرُعب والغموض القاهر.

قال "فالع" الزعيم الجديد معُقباً :

ـ أنا لستُ معك وما ذهبت إليه، قد يَحْمِل شيئاً من المخاوف ولكنها لا تصل لدرجة الرُعب والقلق، والحقيقة أنا أرفض أيّ أفكار دخيلة على مُجتمع سيح المالح ولنْ أسمح لأحد استخدام أراضي المُتحد قاعدة انطلاق للخِداع والخيانة ، ولنْ نقبل بالغُرباء ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة بأنْ يُضِلّونا بأفكار مُلتوية ،  وعلينا أنْ نثق بِمُتّحدنا وتعاوُننا ونرفع من قيَمة ونزاهة ترابطنا ونُعزز من مكانة تجاورنا مع المُجتمعات المُحيطة بنا، وأنْ نقبل بالغُرباء ذي العيون الزرقاء، الشرقيين، فهم على اختلاف كبير مع الغربيين ذو الوجوه الحُمر المُكتنزة ولا يَخفى على أحدكم صِراعهم التاريخي الذي يَحتدم ولا يكاد يتوقف وإنْ كانَ غير ظاهر ، فبينهم مُنافسة تقليدية غير آمنة ، وهذه الحادثة قد تُشَكّل بداية الصراع بين الغرب والشرق وتكون المُنافسة بينهما انطلاقاً من سيح المالح المُتحد ، فإنْ عَزّزنا علاقاتنا بذوي العيون الزرقاء والبشرة البيضاء ، فذلك خير ومَنْعَة، فهُم يَسعون للتقرّب مِنّا ، وازدهار التجارة معهم ، سوف يأتي بثمار نظام جديد لا تَسَلّط فيه من جهة الغربيون ذو الوجوه الحمراء المُكتنزة على ديارنا وأرزاقنا وتجارتنا وسوف يكون تجاورنا أكثر أماناً واستقراراً ، وسيتطوّر مُتحدنا شيئاً فشيئاً ، من مُنطلق تقاربنا مع الشرقيين.

قام شخص وبسط وثيقة مكتوبة وقال :

ـ أيها الناس، اسمعوا ما أقول لكم، أنتم رجالنا وقوة عِزْوتنا، وهذا زعيمنا الجديد ، ولنْ نَقبل بغيره أبداً ولو عاد "فلّوع" فلا زعامة له بيننا ولا حُجة له من بَعد هروبه وغيابه عن ديارنا ، فالقائد لا يهرب ويترك أرضه وأهله وجماعته ويجعلهم في حيرة من أمرهم.. وإنْ توجّهت أصابع الاتهام إلى جهة نعرف مَن خَلْفَها ومُرتكبها فذلك لا يُبرر الخروج وترك المُتحد في هذا الظرف العصيب فالرّباط الرباط أيها الرجال.

توقف قليلاً.. ثم أردف:

ـ وهذا الرجل ـ وأشار إلى "فالع" ـ هو الرجل الذي اخترناهُ بل هو الذي اخْتارنا في الوقت الحسّاس وهو وَقْت لا يَثبت فيه إلاّ الرجال والرّجل ذا عزم وصَلابة ومن خِيْرة قومَنا وصَفوة رجالنا وقد قَبِلَ بأنْ يكون قائداً وزعيماً، وعلينا أنْ نَتّبعه في العُسر واليُسر.. وبسط وثيقة مكتوبة.. وقال هذه وثيقة عهدنا معه. ونحن معه في المَنشط والمَكره، ومن يَخلف ويقعُد عن أمرنا ، نُقيم عليه الحُجة وعُقوبته القصاص ، نُبيّنها لكم في وثيقة العهد الجديد.

فقال فالع.. بلهجة آمرة :

ـ أقرأها لِيَسْمعها كل شخص حضر بيننا.؛

صفق الحاضرون، تصفيقاً يُخفي وراءهُ غُموضاً، وتفوح منه رائحة خيانة قد تكون مُقلقة للمُتحد.. فقام رجل وقد توجّس أثر خيانة قادمة وهمس في أذْن الزعيم الجديد وأسرّه برائحة خوف وقلق ، وقال :

ـ  إني لأشمّ  رائحة خيانة في عُمق المُتحد ستُغرقنا في وحل خطير.. ذلك الرجل الهامس هو الذي مَنّاهُ "فالع" لأنْ يكون خليفة مِن بَعده .

همس فالع إليه بارتباك:

ـ وما الحلّ للخروج من مَعمعة الخيانة؟

وجاءَه الرد سريعاً :

ـ توسيع المُتحد، امتداداً إلى القريتين والوادي الصغير، والسماح بإدخال نُفوذ الشرقيين واسْتمرار دَوْرهم المُطلق ، ونطلب منهم أنْ يحدّوا من تمدّد نفوذ الغربيين في ديارنا ومُساعدتنا في القضاء على خيانة الداخل.

ـ كيف.. قل ما هو الحل للقضاء على خلاف رجال المُتحد المُحتدم.؟

ـ تحدث معهم، كشخصية قيادية آمرة، وبيّن لهم، بأنّنا الآن أمام مُفترق طُرق ونحتاج إلى أساليب جديدة ونحتاج الى التحالف مع الغُرباء الشرقيين، وتعزيز مُبادلة التجارة المُطلقة، وزيادة قوة تعاوننا مع ذي العيون الزرقاء.. والبحث معهم في ترتيبات الهجرة الجماعية. وذلك هو الهدف، لنقوم بدفع الخونة إلى الشمال والجنوب بعيداً عن مركز الخطر .!!

قال رجل مَقهور من بين الجمع :

ـ لا تشفع لنا أحاديثكم ما لم تقوموا بمحاسبة " فلّوع" فَتُراب سيح المالح المُتحد يرفضه ، وإنْ لم يَقم الزعيم الجديد بأخذ مُقترحنا بعين الاعتبار ، فإنّ مُتحدنا سوف يضعف ثم تتشقق جُدرانه ، وقد تهبّ رياح خيانات قادمة فيطير السقف.؛

همس " فالع" إلى الرجل الذي مَنّاهُ ليكون خليفته :

ـ انتبه لهذا الرجل الذي يتحدث عن مُحاسبة أخي "فلوع" ويستبق الاحداث.. فإني أرى أن رائحة الخيانة تفوح منه. فَلْنَقطعها فوراً ، ويجب أنْ يُقتل و يُعْدم ثم يُصلب أمام أعين أهل بيته ، ليكون عِبْرة لهم ولغيرهم من الخائنين .؛

مرّ نهار اليوم في تسارع مُضطرد ، وكأنه يهرب ، والشمس تزداد توهجاً ، بعض الرجال يرفضون مُناقشة مشكلة هروب "فلوع" أو  مُحاسبته ، فالغائب حُجته معه حتى يؤوب إلى أهله ونعرف الحقيقة الكاملة ، ورفض أغلب رجال المُتحد. مُحاسبة "فلوع" ما لم يُتم التأكد مِن سبب غيابه.

يتبع 7

تعليق عبر الفيس بوك