إيلان بابيه والنيو-صهيونية (3-3)

 

 

د. هيثم مزاحم **

 

يقول المؤرخ الإسرائيلي الأصل إيلان بابيه المعارض للصهيونية والمقيم في بريطانيا في كتابه "فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة"، إن الأكاديميين الإسرائيليين في مدرسة ما بعد الصهيونية قد ركزوا اهتمامهم على أحداث العام 1948 وذكرى الهولوكوست واليهود المزراحيين، إذ انتقلت النقاشات إلى الساحة الإعلامية، وتوسّعت دوائر النقد إلى مجالات ثقافية أخرى، كالموسيقى والفنون البصرية والأدب. ويناقش بابيه إسهام هذا الجدل في تشكيل فكرة إسرائيل ثقافيًا، ومن ثمّ يتعرّض لتمظهرات ما بعد الصهيونية لفكرة إسرائيل في المسرح والسينما.

في مجال الإعلام "ما بعد صهيوني"، يلاحظ المؤلّف أن وسائل الإعلام الإسرائيلية قامت بفتح أبوابها أمام الأكاديميين الجدد، وإن لفترة قصيرة خلال تسعينات القرن العشرين. وقد يُفهم هذا على أنه جزء من دور غامض لعبته وسائل الإعلام في المجتمع الإسرائيلي.

وقد عملت الصحافة الإسرائيلية وفق قوانين الطوارئ التي فرضتها سلطات الانتداب البريطانية عام 1945، والتي أبقى عليه الكيان الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن هذه الأنظمة استُخدمت بشكل شبه حصري ضد الفلسطينيين في إسرائيل، فإنها استُخدمت كذلك، وفي حالات نادرة، ضد الصحافة الإسرائيلية اليسارية.

ولم تكن ما بعد الصهيونية تمثّل في نظر الإعلام الإسرائيلي "الرسمي" موقفاً ذا شرعية؛ فلم يُنظر إليها على أنها قطب اليسار في ميدان السياسة. فهذا "اليسار" كان ولا يزال يعني ذلك الاستعداد من الناحية المبدئية على التخلّي عن الأرض في مقابل السلام والاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وهذا تعريف لا علاقة له بموقف اشتراكي أو نظرة محدّدة للقضايا الاقتصادية.

وبناءً على هذا، قدّم الصحافيون اليساريون أجندة بعيدة كلّ البعد عن تلك التي طرحها الأكاديميون والفنّانون في مرحلة التسعينيات. فقد كان انتقادهم متعلقاً بشكل حصري بالسياسات التي انتهجتها إسرائيل بعد العام 1967 وسلوكها تجاه العالم العربي والفلسطينيين. وهذا يعني أنهم يعترفون بشرعية ما قامت به إسرائيل، ومن قبلها الحركة الصهيونية، بفلسطين حتى العام 1967، منطلقين ممّا دعوه قلقاً على مصير الصورة الدولية لإسرائيل أو اليهودية في حال استمرار احتلال المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 وأثر ذلك على "الروح" الداخلية والأزلية للكيان. أما مُصاب الفلسطينيين فليس سوى أمر ثانوي؛ هذا إن لم يسقط من الاعتبار كليّة.

حول المسرح والسينما في الحركة ما بعد الصهيونية، يقول بابيه إن انتقاد الذات في المسرح،على غرار مجالات ثقافية أخرى، كان مقتصراً بشكل عام على الفترة التي تلت العام 1967 في إسرائيل، وكان التركيز منصباً على التداعيات الأخلاقية في المجتمع اليهودي الإسرائيلي لاستمرار الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزّة. وقد ظهر ذلك جلياً في المسرحيات التي كتبها صهاينة ليبراليون ويساريون إبّان حرب لبنان الأولى.

ويضيف بابيه: لقد مرّت صناعة الأفلام الإسرائيلية بمسار شبيه بذلك المسار الذي مرّ به المسرح، ولكنّ الفيلم كان أقدر على تقديم تحديات أعمق للصهيونية في سرديّتها التاريخية وخطابها أكثر من أي وسط آخر.

وللدلالة على الفشل الأكاديمي والإعلامي في تحديد الموقع أو الوجهة حيال فكرة إسرائيل وسياساتها، يُلقي بابيه نظرة فاحصة على المسلسل التلفزيوني "تكوما"، والذي يتناول تاريخ "دولة إسرائيل"، وجرى عرضه على القناة الإسرائيلية الرسمية عام 1998، بالتزامن مع احتفالات اليوبيل الذهبي لتأسيس "الدولة". وكلمة "تكوما" العبرية تعني إعادة قيام الشعب اليهودي في أرض الميعاد في فلسطين. ولكن هذا العنوان ارتبط ببرنامج تلفزيوني يعبّر في بعض أجزائه عن رسالة ما بعد صهيونية، أو متأثرة على الأقل بالتفسيرات الما بعد صهيونية لنقاط أساسية في تاريخ إسرائيل.

كما يتحدث بابيه عن مرحلة انتصار النيو-صهيونية، والتي تلت مرحلة ما بعد الصهيونية، لافتاً إلى أن الروايات والمسرحيات والأفلام التي تجاوزت السرديّة الصهيونية ونظرتها السلبية عن العرب لم يُكتب لها أن تصبح من ضمن السائد المقبول في إسرائيل، حتى في أفضل فترات ما بعد الصهيونية، التي لم تمثّل موقفاً ثقافيًا مهيمناً في الكيان، ولا كان منتجو أعمالها من بين قادة المشهد الثقافي الإسرائيلي.

وعلى نقيض مفكّري ما بعد الصهيونية، ذهب الصهاينة الجدد إلى أن نسيج التديّن والقومية كفيلٌ بصون وحدة المجتمع الإسرائيلي ووضع حد لحالة التشرذم المزمنة فيه.

وقد تشكّل هذا التوجّه النيو-صهيوني في أربع عمليات متوازية: تعزيز حالة التطرف لدى المجموعات القومية المتدينة في إسرائيل، وصهينة اليهود المتشدّدين دينياً والذين كانوا سابقاً مناهضين للصهيونية، وفرض حالة من العزل العِرقيّ لأطياف من المجتمع اليهودي المزراحي، بسبب ما حصل من دفعهم نحو الأطراف الهامشية (جغرافياً واقتصادياً) من المجتمع، وأخيراً الإسراع في دمج إسرائيل في تيّار العولمة الرأسمالية،على طريقة المحافظين الجدد أو بالأحرى اليمين الأمريكي الجديد (وهو ما انجذب إليه تحديداً المهاجرون الروس).

وهكذا، يرى بابيه أن الرؤية التي جمعت بين تلك المجموعات الأربع هي السعي لإقامة دولة يهودية عِرقية تمتد على معظم أراضي فلسطين التاريخية.

ويعرض الكاتب لبعض "إنجازات" النسخة النيو-صهيونية، وأخطرها شرعنة "الأبارتايد" (الفصل العنصري)، حيث شهد القرن الحادي والعشرون موجة مكثّفة ومندفعة من التشريعات ضد الفلسطينيين في إسرائيل، ولم تكن الانتفاضة الثانية (عام 2000) سوى ذريعة لتمرير مثل هذه التشريعات، إذ كان الدافع الأساسي وراءها هو الهاجس الديمغرافي لدى إسرائيل في عمق كيانها، حيث لم تُفلح معدّلات الولادة الطبيعية ولا معدّلات الهجرة في خلق حالة من التوازن الديمغرافي بما يضمن لليهود التفوّق والحصرية في مجتمعهم.

في الفصل الأخير من كتابه، يدرس المؤلّف مظاهر انتصار النيو-صهيونية في الدراسات الجديدة التي تناولت أحداث العام 1948 في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.

ويخلص بابيه إلى أنه أنه لم يعد هنالك أي بُعد أخلاقي في الدعم العالمي المقدّم لإسرائيل، التي تترسّخ صورتها أكثر فأكثر كدولة مضطهدة للشعب الفلسطيني، وكدولة كولونيالية من إرث القرن العشرين، وهي لا تزال قائمة لأنها تخدم أغراض الولايات المتحدة ولأنها تلعب دوراً مهماً في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وحين يبدأ هذا الجانب الوظيفي من الدعم بالتراجع، فإنّ الكفّة ستميل لتحقّق السيناريو الذي رآه مفكّرو ما بعد الصهيونية ومفكّرو النيو-صهيونية على السواء، والذي يتمثّل في دولة منبوذة تقوم على نظام فصل عنصري.

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية بلبنان