◄ تنازلنا عن كثير مما كنَّا نعتقد خطأ عن الآخر وحذفنا الكثير من الأقوال والأفعال والمعتقدات من قاموسنا الضيق فكان ذلك درسًا غير مكتوب في التعايش
علي بن سالم كفيتان
زُرت الوادي الكبير للمرة الأولى في أكتوبر 1989، حينها كنت طالباً مستجداً بجامعة السلطان قابوس، فقد كان باص الجامعة يأخذنا في رحلته المجدولة كل يوم إثنين في تمام الساعة الرابعة عصرًا إلى روي، وهناك باص آخر يذهب إلى السيب، وكالعادة كانت روي هي الوجهة المفضلة لمُعظم الطلبة، فكان الجميع يتسابقون للظفر بمقعد روي؛ حيث جامع السلطان قابوس ودروس الشيخ الخليلي من المغرب إلى العشاء، والأسواق والمطاعم ومركز "الأوكي سنتر" المفعم بالحياة.
عندما نصل هناك نتفرَّق كل حسب حاجته، حتى نجتمع في محطة الباصات مجدداً في تمام التاسعة، لنعود من حيث أتينا، كنَّا نتجول راجلين لنصل إلى سينما النجوم عبر شارع فندق الشيراتون النابض بالحياة، كل شيء كان مبهرًا للقادمين من القرى الجبلية البعيدة، وكم يلفت انتباهي الاسم المعنون على اللوحات المرورية الزرقاء العملاقة "الوادي الكبير"، لكننا لم نكن نتجه يمينًا إلى هناك، بل يساراً إلى شارع المال والأعمال، مروراً بعقبة روي، وصولاً إلى دوار السمكة الشهير في مطرح؛ فسيارات النقل العام (بيك آب) بكراسيها المنجدة بالنقوش الزاهية، ومظلتها من قماش الخيم الكاكي، تكتفي بمئتي بيسة لإنجاز هذه الرحلة، والاستمتاع بأجواء مطرح وسوقها الشهير كل شيء في مسقط يتحوَّل بسرعة والناس على عجلة من أمرهم رغم أنَّ خليجها يبدو كبركة ساكنة لا تكاد تسمع لها حسيساً.
حينها كُنا نتعلم أبجديات التعايش على يد السلطان قابوس -طيب الله ثراه- فنحن طلبة جَمَعتهم الأقدار معاً من أقاصي ظفار إلى رؤوس الجبال في مسندم، لم يكن هناك حيِّز للتفكير في المذهب أو المنطقة أو العرق؛ فالجامعة حوت الجميع، كان زملاؤنا من أبناء الأسرة المالكة، ومن أبناء التجار المعروفين، ومن أبناء الشيوخ ووجهاء المحافظات وعلمائها، ومن أبناء عامة الناس، معاً لا تمييز مطلقاً، الجميع يستكشفون الجامعة التي أهداها السلطان العظيم إلى شعبه بمرافقها المتعددة وساحاتها الرحبة ومناشطها التي لا تهدأ. بنات حواء خُصِّصت لهن ممرات علوية تُوصلهن إلى جميع قاعات الدرس، ونحن نذرع الممرات الأرضية التي لا تنتهي، كانت أعواماً لا يمكن نسيانها، فقد انصهرنا معاً لنشكل لوحة عجيبة من التعدد اللغوي والثقافي والعقائدي، فلن تستغرب إذا سمعت أبناء ريف ظفار وهم يرطنون بلغتهم الجنوبية الرشيقة في الوقت الذي تتهادى إلى مسمعك اللغة السواحلية بمفرداتها الجميلة التي تجمع العربية والإنجليزية، ولهجات أخرى قادمة من القارة السمراء، ستستمع إلى المهرية والبلوشية والشحية والحرسوسية والبطحرية، وصنوف أخرى من اللسان العُماني الذي يظهر عظمة هذا الوطن؛ فالجميع يتعلم من الجميع، وتجمعنا العربية، كنَّا سعداء بهذا التباين وتلك الفسيفساء الواسعة، تنازلنا عن كثير ما كنا نعتقد خطأ عن الآخر، وحذفنا الكثير من الأقوال والأفعال والمعتقدات من قاموسنا الضيق الذي قَدِمنا به من قُرانا وحِللنا الصغيرة، مجَّدنا العلم الذي يجمعنا، وأحببنا قابوس، حتى بات ذكره يسري كالدم في عروقنا، كان ذلك درسًا غير مكتوب في التعايش وقبول الآخر.
كنت أتنازل عن بعض وقتي في سوق روي لأستمع إلى درس الشيخ أحمد الخليلي -حفظه الله- في جامع السلطان قابوس بروي بعد صلاة المغرب، وذلك في السنوات الأخيرة لي بالجامعة، تأسرني فصاحته وإحاطته الواسعة بالدين، وسماحته مع الجميع، وأذكر أنني سألته يوما عن زكاة الأنعام فرد عليَّ مطولاً، وعند خروجه من الجامع ذهبت للسلام عليه قبل أن يلج السيارة، فوقف لي وسألني: من أين أنت يا بُني؟ أجبته: من ظفار، فأثنى على أهل ظفار وشجاعتهم وبسالتهم، وقبل أن يغادر سألني إن كانت لي حاجة فرددتُ بالنفي، بينما رأيته يجمع أوراقًا من الناس، علمت لاحقاً أنه يأخذها ويقرأها ويحيلها للجهات المختصة، فتزكية الشيخ مُجابة ورأيه مأخوذ به.
أول مبيت لي بالوادي الكبير كان في ضيافة الشيخ سالم بن مسلم بن علي فالت -عليه رحمة الله- بمنزله هناك، حيث كان حينها يشغل منصباً رفيعاً، فلم أكن أعرف الرجل عن قرب بحكم عمله خارج ظفار مطولاً، ولكن بضع دقائق كانت كفيلة بمعرفة شخصية عُمانية من الطراز الرفيع، لا زلت أذكر نصائحه القيمة وقراءته الواقعية لعُمان وشعبها؛ فالرجل عمل في مُعظم محافظاتها، وأضفت شخصيتة القبلية البارزة بُعداً آخر، للمشهد كلمني مطولاً عن طموحات السلطان وتطلعاته وأمله فينا نحن جيل الشباب في تلك الحقبة، فكانت ليلتي تلك هي الليلة الأولى التي قضيتها في ضواحي الوادي الكبير، واليوم التالي سيكون الجمعة توجهنا إلى الجامع القريب من المنزل، كان الخطيب أزهريًّا، والمصلون من كل المذاهب، وشاهدت يومها -وللمرة الأولى- التربة التي يأخذها إخواننا الشيعة ويسجدون عليها.. وللحديث بقية عن الوادي الكبير.