بخٍ بخٍ يا يوسف

 

 

د. خالد الغيلاني

في ليلة هادئة من ليالي مسقط العامرة، ودوام يوسف الندابي تتقارب ساعاته، وتدنو دقائقه، ارتدى بزته العسكرية، وتمنطق حزامه، وتوج رأسه بقبعة العزة والكرامة، وهي تحمل شعار حراس المبادئ، وحماة الأمن، وانتظم في مشهد تتضح فيه هيبة الفارس، وعنفوان الرجل، وسمت الأنفة، والشموخ على الحق والحقيقة.

انطلق من مقر سكنه، يحدوه أمل عظيم، ورغبة صادقة في أداء مهامه، وبذل جهده، والقيام بواجبه في سلك مُنتظم من العمل الشرطي الرفيع. استلم عمله من زملائه، فقد انتهت للتو ساعات عملهم، وبدأت ساعات عمل يوسف ورفاقه الأشاوس.

انطلقوا في شوارع مسقط البهية بنور جمالها، الزكية بطيب أهلها، الفتية بعزم أبنائها، الراسخة بحضور تاريخها، الندية ببهاء أريجها، الثابتة بثبات الجلالي، الحصينة بارتفاع الميراني، الشامخة بقلعة مطرح الشماء. انطلق يجوب شوارعها لتطمئن نفوسنا، وتسعد أرواحنا، ونعيش حياتنا بهناء واستقرار، وأمن وأمان للجميع على أرضنا الحرة الأبية.

فكلما رأينا سيارة مهيبة مكتسية سواد الدفاع والبذل، وبياض الكرامة والمحبة والسلام، سرت بين الجوانح راحة وسرور، وشعور بأننا بين أيدٍ أمينة، حريصة على سلامتنا، وأمننا.

ويوسف يجول وزملاؤه، فكأني بالعمليات تنادي نداءً ما تعودناه، ولا عرفناه، هلموا أيُّها الرجال، هبوا يا من تسمعون النداء والبلاغ، إطلاق نارٍ على مقربة من "دوريتكم"، يوسف ورفاقه تلقينا النداء ونتحرك فورا إلى مكان الحدث، إلى الوادي الكبير الوادع في أمن وأمان، القابع بين حنايا الجبل ومجرى الوادي، المعروف بصناعيته، المسلك اليومي للكثيرين نحو مجلس عُمان وقصر البستان، وغيرها من مؤسسات الدولة.

وصل الرجال المخلصون وهبت نجدات الشرطة الأبية الحامية الحارسة، من كل زاوية، فالواقع وكثافة النار تدل على أن الخطب جلل، والحادث فظيع، والصرخات تتعالى، والرصاص يتعاظم، تتداخل الأصوات بين مهلل ومكبر، ومحتفٍ بذكرى عاشوراء، وأطفال فزعوا للتو من نومهم، وأم تنزل بهم تحت سرير نومها خوفاً من طيش الرصاص وانحرافه، وأب يسرع فيُغلق نوافذ بيته أو شقته، وذاك يجري دون هدي منه ووعي طلبًا للنجاة، وبين مستتر بجدار، ومحتمٍ بسيارة، الكل يطلب النجدة، ويرجو السلامة لنفسه وأهله.

إلا يوسف البطل المقدام ورفاقه ممن حضروا هذا المشهد ولبى نداء الواجب، فعقيدتهم وقناعاتهم أنهم حماة الحق، حراس المبادئ، جند الوطن، والمدافعون عن أمنه، يدفعهم إلى البذل والتضحية قسم واجب الأداء، ووطن يستحق الفداء، وسلطان له الولاء، ومجتمع له الحماية والصيانة على حقيقتها الثابتة الراسخة، ومنابت فضل وعزة وكرامة تربوا فيها على مكارم الأخلاق، والثبات عند اللقاء، وصدق المُواجهة لكل خطب وبلاء، ومن خلفهم أباء كرام وأمهات أصيلات، وأسر لا تقبل الضيم، ولا ترضى المهانة، هذا داعي الحق، والثبات على العهد، هنا موطن الصدق، هنا موطن المسؤولية.

وفجأة تحدِّث النفس يوسفها أحجم ولا تقبل، ففي العمر مُتسع، وللشباب رونقه، فالأولاد يسألون، والأهل ينتظرون، والصحب لرحلة أو جولة أو سياحة يخططون، تمهل واحفظ نفسك يا يوسف. لا أيتها النفس، فوالله إنِّه لقسم، وإنها أمانة، وإنها عظيمة، فلا إحجام، ولا تخاذل، ولا إدبار، ولا تولي، فلست الفار عند اللقاء، فأنا الحر ابن الحر، أنا الندابي المُقبل، والبائع لنفسه يوم يطلب الوطن بيعها. لمثل هذا أُعددنا، ولهذا اليوم دُربنا، وبهذا نستحق عُمانيتنا.

مضى الفتى يوسف ونعم الفتى يوسف، وصحبه الرجال المقبلون، مضى مزمجرا، مشمرا، مكبرا، رافضًا لفعل يختل له الأمن، ويرهب منه الناس، وما هي إلا جولة وجولة، حتى ارتقى الفذ الهمام، والأسد الضرغام، والباذل المقدام شهيدا فتّحت له السماء أبوابها. واكتست الأرض لونها الأحمر، وزكت رائحة المكان مسكا مضوخا، وارتوت أرض الوادي الكبير دما شريفا كريما، سيبقى خالدا أبد الأبد.

وانتشرت الأخبار، وفرح الأهل فيوسف شهيد رفع رأس أهله، وسما ببلده، يوسف حي يرزق عند ربه، يوسف باق ما بقي الوطن العزيز، يوسف مفخرة شرطة عُمان السلطانية بكل القادة والأفراد، يوسف ملحمة عز وفخار، ويوسف ترتج باسمه جبال الشرق والغرب العماني، وتلهج بذكره جبال القرا.

وإلى شباب عُمان في كل مكان منها؛ ففي هذا الوطن وفي كل شبر منه يوسف ويوسف ويوسف لا يساوم ولا يداهن ولا يبالي كيف يكون مصرعه، دفاعا عن الوطن، وحماية له، وذودا عن حياضه.

رحم الله تعالى يوسف وأسكنه فسيح جناته، ومنَّ على رفاقه بالشفاء العاجل، وحفظ الوطن وسلطانه وأهله إنِّه سميع قريب مجيب الدعوات.