أعوذ بالله من كلمة "أنا"

 

 

زكريا الحسني

من الملاحظ كثيراً أن كلمة "أنا" عندما تأتي على ألسن بعض الناس، يعقبونها فورا بجملة: "أعوذ بالله من كلمة أنا"، وكأنهم بذلك قد نطقوا بشيء سيئ جدا، ولعل هذا الشعور نابع مما نقله القرآن الكريم عن لسان امرأة العزيز: "وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِىٓ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌۢ بِالسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّىٓ إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ".

فهذه الآية ليست فقط تتحدث عن: "إِنَّ ٱلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌۢ بِٱلسُّوٓءِ"، وإنما تذكر كذلك: "إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّىٓ إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ"؛ أي أن الرحمة الإلهية تعمل على تنظيف النفوس من دعوتها للأعمال السيئة.

يذكُر القرآن الكريم "الأنا" في موارد مكروهً كما في قوله تعالى: "أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ"، وفي قوله عز وجل: "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ"، ولكن ذُكرت "الأنا" في إطار مُحبذ أيضا، كما في قوله عز من قائل: "إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ". "لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ".

ومن أعظم الموارد التي يتم فيها ذكر "الأنا" هو في كلمة التوحيد؛ حيث نقول بتعليم القرآن الكريم لنا: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ". إذن؛ ليست "الأنا" مُستنكرة وقبيحة دائمًا؛ بحيث يتطلب كلما قال المرءُ "أنا" وجب أن يتعوذ منها مباشرة، أو أن لا يتم توظيفها في الحديث والكلام، فهذا يتنافى طبيعة الإنسان ورغبته الفطرية في الإشارة إلى ذاته عندما يريد أن ينسب الفعل إلى نفسه، أو أن يشير إلى أمر يتعلق به. ولو تخلينا عن "الأنا" فقد يتوجب علينا أن نتواصل بطرق وأساليب أخرى مثل التخاطر!

وفي الأحاديث النبوية لكلمة "الأنا" ذكرٌ أيضا، ففي الخبر الذي يرويه البخاري، قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا"، وقوله عليه الصلاة والسلام الذي يرويه الإمام أحمد وصححه الألباني: "أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللهِ"، وقال أيضًا: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (رواه مسلم: 2278).

و‎يقول أهل العلم إنَّ "الأنا" إذا أتت في الكلام على نحو التواضع أو كما لو قالها في مقام التواضع والانكسار لله، أو الاعتراف بالذنب، أو إبداء الفقر والحاجة إلى رب العالمين، كما في الدعاء الذي يرويه مسلم: "اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ". وبصورة عامة، كل ذكر وحديث فيه "الأنا" يخلو من العظمة والغرور والعجرفة، ففي هذه الحالة لا ضرر من ذكر "الأنا" في الحديث.

قال ابن القيم رحمه الله "وَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ طُغْيَانِ "أَنَا"، "وَلِي"، "وَعِنْدِي"، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ ابْتُلِيَ بِهَا إِبْلِيسُ وفرعون، وقارون، "فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ" لِإِبْلِيسَ، وَ"لِي مُلْكُ مِصْرَ" لفرعون، وَ"إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي" لقارون، وَأَحْسَنُ مَا وُضِعَتْ "أَنَا" فِي قَوْلِ الْعَبْدِ: أَنَا الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ، الْمُخْطِئُ، الْمُسْتَغْفِرُ، الْمُعْتَرِفُ...وَنَحْوِهِ: "لِي"، فِي قَوْلِهِ: لِيَ الذَّنْبُ، وَلِيَ الْجُرْمُ، وَلِيَ الْمَسْكَنَةُ، وَلِيَ الْفَقْرُ، وَالذُّلُّ، و"َعِنْدِي"، فِي قَوْلِهِ: "اغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلِي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي، وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي" انتهى من "زاد المعاد" (2/434-435)، ويُنظر: "معجم المناهي اللفظية" للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله.

بعد هذه التوضيحات، يتبيَّن المسار الصحيح الذي ينبغي فيه ذكر "الأنا" دون الحاجة إلى التعقيب بقولنا: "أعوذ بالله من الأنا"، أو اتهام الآخر إن ذكر "الأنا" في كلامه دون أن يعقب بجملة "أعوذ بالله من الأنا" باتهامات غير لائقة، وإلا فكم من معقب بهذه الجملة وهو لا يزال يتحدث بنفخة عالية عن ذاته وعن "الأنا" الطاغية لديه بحيث أن جملة "أعوذ بالله من الأنا" التي عقب بها لم تكن إلا لقلقة لسان.

تعليق عبر الفيس بوك