عُلوًا كبيرًا

 

أنيسة الهوتية

قال تَعالى في مُحكمِ كتابه العزيز: (وَقضينا إِلى بَني إسرائيلَ فِي الكِتابِ لَتُفسِدُنَ فيِ الأرضِ مَرتينِ وَلَتَعلُنَ عُلُواً كَبيرا "4" فإذا جَاءَ وَعدُ أولاهُما بَعثنا عَليكُم عِباداً لَنا أولِي بأسٍ شَديدٍ فَجَاسُوا خِلال الديار وَكانَ وَعداً مَفعولا "5" ثُم رددنا لَكُم الكَرةَ عَليهِم وأمددناكُم بأموالٍ وَبنينَ وَجعلناكُم أكثرَ نَفيرا "6" إن أحسنتم أَحسَنتُم لأنفُسِكُم وإن أسأتُم فَلَها فإذا جَاءَ وَعدُ الآخرةِ لِيسُوءُوا وُجوهَكُم وَليدخُلوا المَسجِدَ كَمَا دَخلوهُ أول مَرةٍ وَلِيُتَبِروا مَا عَلوا تَتبيرا "7"  عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا "8") صدق الله العظيم (سورة الإسراء).

من مُعجزات القرآن الكريم إنه لا يحدثنا فقط عن قصص الأنبياءِ والعصور القديمة بل أنه يخبرنا عن المستقبلِ كذلك، وهذه الآيات أعظم دليل على ذلك. فإن العُلوا الكبير الذي تعيشهُ دولة الصهاينة بلبسها لعباءة بَني إسرائيل قد ذُكِر في الآية الرابعة، وَلَكِن هَل هذا هو العُلو الكبير الثاني؟ إن كانت كذلك فإن نهاية هذه الدولة قريبة إن شاءالله تعالى، ولكنها ليست النهاية الأبدية لأن الآية 8 تقول (وإن عُدتُم عُدنا)، أي أنهم بالإمكان أن يعودوا ولكن لن يعودوا بهذا العلوا الكبير مرةً أخرى.

حاولتُ أن أستدِل على أنهُ هو العُلوا الثاني في الآية 4، وبأن الوعدُ الأول قد تم وإنتهى وفعلاً أتى عِبادٌ للهِ أُولي بأسٍ شديدٍ وجاسوا في ديارهِم وفتحوا القدس عُنوةٌ بتكتيكٍ حربيٍ دقيقٍ وعمليات سابقة للمعركة تمت بنجاحٍ مع توغل هداهِد المُسلمين فيهم قبل أن يجمع صلاح الدين الأيوبي من الموصل والجزيرة العربية ودمشق والشام والقاهرة حوالي 12 ألف فارس، و14 ألف من المشاة، وأعدادٌ كبيرة غيرهم من المتطوعين الذين توجهوا إلى الكرك فأخذ هو قيادة القلب وأعطى لتقي الدين عمر قيادة الميمنة ومظفرالدين كوكبري قيادة الميسرة، ثم تبعهم أسطول عظيم من مصر. (والإتحاد قوة).

فأستولى المسلمون على الأعشابِ والأشجارِ وعيون الماء والأنهار، حتى أجبروا الصليبيينِ على الخروج إليهم في حربٍ شرارٍ فازَ فيهِ المسلمون، وفتحوا القدس وكان ذلك وعدًا مفعولًا.

لم أضع في الحُسبان الفتح العُمَري رغم أنه الفتح الأول للمسلمين، لأن أسلوب جيش أبي عبيدة عامر بن الجرّاح في عهد عمر بن الخطاب لم يكن كما وصفته الآية! بل كان فتحًا أشبهُ بالسلام بعد استسلام البطريرك صفرونيوس وتسليمه لمفاتيح المدينة إلى عمر بن الخطاب بنفسه في يوم كان أشبه بالاحتفال.

ورغم مَيلان فكري وتقديري القِرائي إلى أن فتح صلاح الدين الأيوبي هو المذكور في القرآن، لأنهم فعلًا جاسوا في الأرض وحرروها من الاحتلال الصليبي الذي أتى بعد تحرير الفاروق لها. ولكن، تبقى هناك مسألة أنهم حرروها من الصليبيين وليس اليهود!؟ والخطاب الإخباري في الآية الكريمة مقضية إلى بَني إسرائيل، اليهود! ودولة اليهود تم الإعلان عنها حين كانت لا زالت بِلا أرض في عام 1896م حين أصدر تيودور هرتزل كتاب الدولة اليهودية، ودعا فيها إلى إقامةِ دولة يهودية مستقلة.

إذن.. الفتح الثاني كذلك ليس هو ما ذُكِر في الآية الكريمة! يعني أن الوعد الأول لم يتم بعد، وهذا هو العلو الكبير الأول لبني إسرائيل! لذلك، من هؤلاء العِباد الذين أحبهُم الله وَذكرهم في كتابه العزيز منذ أكثر من 1445 سنة، ووصفهم بأنهُم أولي بأسٍ شديدٍ! (الله أكبر). إلّا إذا كان الصليبيون يعتبرون يهودًا لأن الدين المسيحي أتى بعد الصابئة التي لم تتم تغييراً لليهودية وتطهيراً لها من التحريف الذي طرأ عليها، وإن كان كذلك فإن هذا فعلاً هو العلو الكبير الثاني.

أما بالنسبة للقدس، فإنها هوجمت 52 مرة، واحتُلت 44 مرة، وحوصرت 23 مرة، ودُمِرَت دمارًا شاملًا مرتين وهذه هي الثانية.