قصة: الوادي الصّغير (1)

 

حمد الناصري

 

شهدت قرية الوادي الصغير زحفاً كبيراً من الناس طلباً للبقاء بجوار الجسر الذي أقامه ابن عبدالأعلى لاحتضان الماء فهو ورجاله البُؤساء ونفرٌ قليل من الغُرباء، أقامُوا جسراً وبِرْكة عميقة تصبّ فيها المياه القادمة من الجبالِ والسهولِ المُجاورة.

قال الزاحفون بقوَّة:

ـ لا نرضى إلا باقتسام الماء بيننا، فقد حدث ذلك بمنّة سَخيةٍ من السماء.

قال رجل ذا لحية بيضاء مُهيبة:

- ماذا عسانا فاعلون؟ فقد أصابَت السَّماء رمالُكم.. نحن فعلنا ما يُمكننا فِعْله، فافعلوا أنتم شيئاً جديداً.. لن نخترق الطبقات، ولا الغوص في أعماق واديكم الصغير.

  قال رجل مُعقباً، عُرف عنه بأنه يحب السلام بين الناس:

- قَحْط الموارد يُصيب الرمال وشُح السماء على الأقوام   ليس جديداً، وعليكم جميعاً أنْ تكونوا معاً، فحب الحياة هيَ رغبة الجميع، فلماذا تبْخلوا على اللذين أصابتْهم السماء بقَحْطها، يُقال بأنّ ذلك هو ذُلّ المَقت، فاحذروه.. أوَ عَلمتُم بأنهُ مُصيبُكم ما أصابَهُم إنْ أنتم فعَلْتم بهذا الذي أقامه الرجل من أجلكم.!

قال أحد الغُرباء الذين اشتركوا في إقامة جسر الماء:

- لا قِسْمة بيننا.. هذه أفكارنا، فكيف نُطمئن من حولنا وهيَ حَكْرٌ على غيرنا .. وأمْوالنا نستثمرها فيما يُصلحنا.

   ورجالنا هم عُدّتنا وعَتادنا في السِّلْم والحرب. فهل نحنُ مُخيّرون إذا ما أشْركنا مَن نراه صالحاً ومناسباً مَعنا.!

قال شيخ الوادي الصغير، بتحدٍ:

تلك فلسفة مَبثوثة، لا يعرفها إلاَّ بُلهاء الرجال وأمثالكم، ولا يَتبعها إلا الفارغون من رجالنا.!

قال رجل آخر. ذا شَفتين غليظتين :

- الجدل العقيم ، لن يُأت أُكله .. أجيبوني، هل السّيادة على الماءِ فيه مُراعاة لفيض السماء.!؟

لم يتغيَّر موقف جماعة الوادي الصغير، وأصرّوا على التحدي، فالماء حياة لهم وليس لغيرهم.. قال كبيرهم مُهدداً:

- الماء بالنسبة لنا حياة، ولن نتخلّى عنه ولو هلك الناس والوادي معاً. .وأياً كان هُو، سواء اشترك في إقامة الجسر، أو كان سبباً بذلك، فإن ذلك لن يأتي محض صُدفةٍ أو قوة  أحدٌ منكم.. إنما جاء بفضل الوادي وبوح سماءها وأرضنا الطيبة التي أنتم عليها.

وما أنتم جميعاً إلا عاملون عليها، تخدمونها وفق توجيهاتها، فهيَ المُلهم و المُنقذ لنا من عذابات الآخرين.

فالماء حقّ لأهل الوادي الصغير، هُم أصحاب السّيادة عليه من المنبع للمصب وهم الأحقّ من غيرهم ، كما كان لهم الحق في السيادة على كل الأمكنة التي يمرّ عليها منبع الماء.!

قال شَيْخ الوادي الصَّغير، مُؤيَدا موقف جماعته:

- نحن معكم،  الرب واحد والمَوْت واحد.

قال رجل مِن الذين كانوا في حضرة شيخ الوادي :

- إنَّ المُطالبة باقتسام الماء معًا، يُعتبر تحدً صارخٍ واعتداءٍ سافرٍ على حريةِ رجال وادينا، منبع الخير.

اجتمع رجل ضَخْم الرأس، يٌعْرف بـ أبو رأسْ ، ببعض رجال وتوسَّطهم وهو يُلقي عليهم توجيهاته.. :

ـ يحلو للبعض تعظيم جهودهم وعرضها بطريقة استفزازية، ونحن لا نقلّ عن غيرنا، فلدينا الرجال والنساء ولدينا أمْكنة عميقة، فالماء يتوسّع مَعنا، وهذا مَكْمَن حِيرة أعْدائنا فلا ندعهم يَنخرون عَظْمنا، ولتبقى حسرتهم على قريتنا الواعدة خاسرة.؛

ومن خلال تجربتي في الوادي الصغير، أرى ما لا ترونه فمِحْنتنا سَببها ـ ليستْ المُستقرّ، ولكن ـ مُشيراً بأصبعه إلى حَيْث رجال عبدالأعلى ـ فهو الرجل الذي خَلق لنا الشّقاق؟ وترك لنا فِتْنة كبرى وهرب خائفاً.؛ فهذا الوادي الصغير، أصبح اليوم كبيراً في أعين الناس بسبب الماء.؛

قال رجل آخر عُرف بالاعتدال:

ـ لماذا نَحْمل وِزْرنا على رجل يتحدّث عن أسبابه التي اقتنع بها وجماعته، وهم يرونه من فعل الخير؟

قال شخص آخر:

ـ أَلا تسمعون.. أَلاَ تعُون، ألا تفهمون قول الرجل الحكيم أبو الرأس .. من حَمل ظُلم الآخرين يبقى خائباً، بائساً، ذليلاً حتى تؤوب نفسه إلى صلاحها.؛

لماذا أنتم لا تصنعون حلاً وسطاً يُجَنّبنا الويلات والمصائب، أرأيتٌم لو أنّ المـاء نَضب، فجأة.! فـماذا أنتم فاعلون.!؟ وكـيف تتـصرَّفـون!؟ ومن هو المُذنب يومَئذ، أنتم أم هُم..؟!

قال رجل أحْمر الوجه مُؤَيداً ما قبله:

- الماء نِعْمة، فلماذا نَتفَّوه بالحماقات والتَّفاهات ونُحَمّل الآخرين وِزْر حَماقاتنا وسخافاتنا؟! لماذا لا نُفكّر في حياة تحمي لنا أموالنا، ومواردنا، وتحفظ لنا مكانتنا.؟ ثُم ما الذي يُضِيركم لو اقتسمتم الماء مع عبدالأعلى وجماعته.!

قال رجل يُطلق عليه بـ البدائي:

- الماء نقمةٌ والجسْر الذي أقامه عبدالأعلى لَعنة على وادينا الصغير وقرف غليظ على قريتنا الواعدة، فَلْنكسر ما بناه الرجل، ولنحطَّم الأحواض التي أقامها، أو يقوم عبدالأعلى وجماعته بالتنازل عن هذا الجسر والأحواض لصالح رجالنا، لكي لا يكون بُؤساً قاتماً بالوادي.؟

قال ثالث بغضب :

ـ هذا عين الجهل. كيف نهدم ما بناه الرجل.. لماذا لا نبدأ من حيث انتهى وجماعته من الفعل المُخْلص..؟ لماذا تَنْقمون عليه الآن فكّروا في حلّ فيه خير  لكم جميعاً ، يُسجله التاريخ ويحفظه باعتزاز وشموخ لكم .؟ أو أنكم تدْعونه ـ أي عبدالأعلى، ليحلّ لكم إشكالاتكم . إنه رجل  عُرف بأنه رجل المواقف الكبيرة .؛

   اعترض الرجل البدائي بشدَّة ، وولىَّ غاضباً وشاركه آخرون.. فانسحبوا من مجلس الرجال .

قال رجل حَمْراوي العيَنين :

- لماذا لا تُسْند الأمور برمَّتها إلى رجل كفء يرضىَ به الجميع ، فالسيد عبدالأعلى ، سَئم قضاياكم فكل صغيرة وكبيرة نحملها إليه ، وكأننا بلا عُقول .؟.

   أبدى الجميع ارتياحاً إلى الرجل، كما أبدوا استعدادهم لإنْهاء صِراعاتهم بالطرق الودية ، دون الحاجة إلى تصعيد المَوقف .؟

قال رجل عُرف عنه برجاحةِ العقل في وقت الشدَّة :

ـ العقل مُمارسة فاعلة في الحياة وتكوين خبرة وتحسين تعامل.؛

من المُلاحظ في قرية الوادي أنّ البعض مِنا وكأنه لا يَملك عقل وبعيد عن رزانة التعقّل ، ولا أحد يدفع بتفكيره إلى خير العمل للناس ، فالناس أساس الحياة وذلك ما ينفعهم ولا يَضُرّهم .؛

وأقول لكم ، علينا جميعاً ، أنْ نتَّفق بإقامة لجنة تتولّى مسؤولية النزاعات والشّقاق في الوادي ، وإنْ كانت مُشتركة من كُل مُجتمع الوادي دون تمييز أحد عن أحد ودون تدخل من أحد وقرارها نافذ على كل شخص أودع ثقته فيها ، صغيراً  كان أو كبيراً .

  هتف الجميع مُؤيدين الاقتراح ، وشرع رجال كثيرون ، كُلّفوا بوضع آلية للعمل المشترك .
يتبع 2

تعليق عبر الفيس بوك