متلازمة خوف.. خرافة جيش لا يُقهر

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

 

رَأَيتُ أحدهم، قد خبر العسكرية وفنونها، يحدّق بي وأنا أناظر شاشة التلفاز، مُحَاولًا معرفة ماذا أكتب؟ ظللت أتابع شريط أخبار عبر إحدى القنوات، إنه كمين عسكري نصبته كتائب المقاومة لمجموعة من الجنود الصهاينة، نتج عنه قتلى وجرحى، وآخر لعملية نوعية مركبة، شملت تدمير آليات ومدرعات لجنود العدو.

أكتب.. وابتسم.. ثم أرسم فرحة عميقة على وجهي، محاولًا إيهام المُحدق بي أنني لست مستغربًا ولا قلقًا، نظرتُ إليه وهو يستشرف ردة فعلي، مسحت على وجهي، أخفى دمعة سقطت من عيني.. نعم يرتجف قلبي خوفاً على هؤلاء الأبطال الأشاوس رجال المقاومة، لكن، أليسوا هم من نسف سردية خرافة عمرها 76 عامًا، كانت قد انطلت على جيوش، وأنظمة، إنها خرافة "جيش لا يُقهر"، لكني في مقلب آخر، قلقت من ضغوط تمارس على قيادات المُقاومة، مع أني مطمئن ألا قبول بخرافات جديدة لكيان انكشف غطاؤه، ولم يحقق شيئاً من أهداف خرافته في الميدان.

ونتيجة لمناخ المقاومة الذي غمر نفوس كل الأحرار، نفضتُ من رأسي فكرة قبول الخرافة، وازحتُ عن نفسي كل ما ترسَّب بها من خوف... التفت إليَّ المُحدِّق بي، مستحضرًا إحساس الضيق في صدري، جراء غمامة سوداء حجبت، لزمن طويل، بصيرة جيوش عسكرية مدربة، وشعوب كانت لا تدري ماذا تفعل، شغل فكرها ما فات، وهي تحزن بما سيأتي، تعلم إنها ليست بمعزل عن تأثيرات طغيان الكيان الغاصب لفلسطين وتبعاته، تعيش في عالم يضج بتعظيم كل ما يمت لخرافته، لدرجة شعورها بعدم الصمود.

من المؤسف والمحزن والمخزي، أن يستبد الخوف بإنسانية عالم يدعي الحرية والديمقراطية، وتذعن دوله لعصابة مجرمة صغيرة، تتحكم بها بخرافات سادية جبروتية؛ أيُ منطق وأيُ قيمة تَدفَع إلى الانسياق وراء هذه الحفنة الإجرامية التي حرمت العالم من إنسانيته وبشريته التي جبلت المجتمعات البشرية عليها؟ إنها عصبة دفعت الشعوب لأن تنسى حرية الحياة مهما كانت قريبة بها، ووضعت النير على أعناقها.

مَرَّ الزمان بنكباته وأزماته على وطننا العربي، اختزنت شعوبه في ذاكرتها شيئا من خرافات وقصص وأخبار هذه العصبة الواهنة، الكاذبة، مثل الأخبار الواردة عن جيشها الذي لا يقهر. هي في حقيقتها أخبار ناقصة، محرفة، انتشرت في النفوس، على نطاق لا يحلم به الكيان المحتل نفسه، لدرجة تصديقها والخضوع لها، نمت على غير حقيقة ضعف وعجز الكيان الغاصب، بالرغم من أن خرافته جاءت تعبيرا عن عقيدته الواهية إزاء مظاهر قوة وغموض عقيدة مقاومة راسخة، ونتيجة لضعف قدرته على كشف غموض وأسرار النضال الفلسطيني، فجل ما أباحت به مخيلة قادة الكيان الجهلة اختراع الأوهام والمبالغات، كمحاولة لقبوله وبقائه.

لم أستطع أن أخفى ما تملكني من رعب وخوف أثناء مشاهدتي للجرائم والإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الغاشم، وقلت في نفسي: "أليس هذا هو الكيان الذي خاضت الجيوش العربية ضده حروبًا كثيرة؟ أيعقل أن تهزمه كتائب المُقاومة؟"، فجأة سمعت صوتًا... اعتدلت في جلستي وأنا أزفر بقوة... مسحت على وجهي مرة أخرى، بيد مرتجفة، قلت لمُحدِّقي بصوت مضطرب: "الخوف.. الخوف يا صاحبي، لقد رأيت الآن وهن هذا الجيش الذي لا يقهر"، ضحك وهو يقول: "يبدو أن ما تكتبه قد أثر على محيطك أيضا... نعم، بطول الصراع مع هذا الكيان... لقد أوهمنا يا رجل بأنه لا يُقهر، ونرى الآن عمليات غزة العزة قد عرّت حقيقة خرافته، لقد حكاها لنا من سبقنا، وقرأناها في مذكراتهم ووثائقهم، لكن، يبدو أن ثورة تكنولوجيا المعلومات مستمرة في مواكبة أحداث غزة، حررت الوعي الإنساني الحر من السطوة الصهيونية، بحيث انحاز في جانبه الأوسع إلى حقيقة ثمرة وعي صهيوني شقي، يرتدي ثوب سردية مموه دارت في العقول ردحا من الزمن، أتاحت للكيان اللقيط فرصة زرع الخوف في المجتمعات الشرقية منها والغربية، لكن ماذا نرى... نجد فيما نراه، أنه قزم، يذكرنا بالشخصيات المشوهة في حكايات جداتنا قبل النوم، وكل ما استحضرنا خرافة "جيش لا يقهر"، تغرقنا في شيء من الحيرة والارتباك، ذلك أنها خرافة تضمنت تأكيدات من مجتمعاتنا، أنه جيش لا يقهر، ونسينا أو تناسينا أن عقيدة المقاومة تقول: "التجربة خير برهان".

نعم.. إن خرافة جيش لا يُقهر تضمنت تأكيدات عربية، لكن، عقيدة المقاومة الفلسطينية، برهنت على الواقع، بشكل غير مسبوق من ناحية الحجم وأسلوب التنفيذ، والجرأة في جرف وهدم عنجهية وتجبر كيان انبنى على خرافة ردع عسكري وأمني واهن؛ بل أفقدت عملية طوفان الأقصى الكيان المحتل هيبته، وحطمت خرافة تفوقه الاستراتيجي، الذي انتهجها منذ بدايات وجوده اللاشرعي على أرض فلسطين.

استدرت إلى مُحدِّقي قائلًا: لقد كشفت عملية طوفان الأقصى خرافة الجيش الذي لا يُقهر، وتبدّى أن رواج هذه الخرافة، ليس إلا نتاج متلازمة خوفٍ بدعوى التوازن الاستراتيجي، فاستطاع مئات المقاومين الفلسطينيين، بأسلحتهم الفردية البسيطة فرض معادلات ردع جديدة، باختراق دفاعات الكيان الصهيوني المحصنة وحواجزه الإلكترونية الأمنية، وفتح ثغراته، وكشفوا عوراته التي لم تستطع جيوش نظامية كشفها.

هل سقط الخوف؟ هل نتجت معرفة جديدة عن طبيعة ومكونات كيان الخرافات؟ لا إجابات لي، أما اليقين الراسخ عندي هو أن المقاومة ولا شيء غير المقاومة يمكن أن تدفن خرافات الكيان الصهيوني، وازالة الريبة والشك جراء تجارب الحقل الدلالي للحروب التي خاضتها جيوش نظامية، وما قرأنا عن نتائجها، وما تحمله الفلسطينيون من نتائج خرافة الجيش الذي لا يُقهر، التي باتت تؤلم الامة باسرها، وأشاعت فينا عقدة الخوف، لأن عقيدة المقاومة الفلسطينية، تتجاوز ما هو محتمل، فجردت بعملية طوفان الاقصى، تكاليف خرافة جاءتنا في غبش من الليل، استعملنا صوت الاستنكار والتنديد كمضاد لها، أما لبعضنا البعض، نضخ بالخلافات والتآمرات، اعتقادا منَّا أننا أصبحنا محصنين ضد خرافات جديدة يقذف بها الكيان المحتل خارج جغرافية أرض فلسطين... لا زلنا نستقبل مختلف خرافات الصهاينة التي كبرت شتلاتها في براثن مجتمعاتنا، كمفهوم أعلى للخوف، ولكن... ومنذ بدء عملية طوفان الأقصى بات الجيش الذي لا يُقهر، يُطالب بحبات إنعاش لخرافته عندما عرت المقاومة عرافي الصهيونية العالمية، وأظهرت حقيقتهم دون التباس أو إبهام.

تعليق عبر الفيس بوك