عالمنا للبيع

 

الطليعة الشحرية

مصطلح "حكومة العالم الخفية" يشير إلى مُعتقد يُؤمن به البعض يتمثل في وجود "حكومة سرية" تتحكم في أحداث العالم تخطيطًا وتنفيذًا؛ بما يُحقق مصالح قوى عالمية نافذة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإعلاميًا، وعلى الرغم من انتشار نظريات المؤامرة والقوى الخفية وبغض النظر عن حقيقة تلك النظريات؛ إلّا أن هناك واقعًا في عالمنا اليوم يضطلع فيه تُجار السلع بمختلف أنواعها من غذاء ودواء ووقود ومعادن ومنتجات إلكترونية وغيرها، بأدوار رئيسية استطاعوا من خلالها الاستئثار بقدر كبير من النفوذ والسلطة.

وهذا ما كشفه الصحفيان جاك فارشي وخافيير بلاس في كتاب "العالم للبيع: المال والسلطة والتجار الذين يقايضون موارد الأرض" يحكي الكتاب كواليس تجارة السلع والأساليب المريبة وغير الأخلاقية. الكتاب يحكي قصص حفنة من رجال الأعمال المتعجرفين الذين أصبحوا تروسًا لا غنى عنها في الأسواق العالمية مما أتاح لهم توسعًا هائلًا في التجارة الدولية، ورَبَطَ البلدان الغنية بالموارد، بغض النظر عن فسادها والحروب التي تُمزّقها، بالمراكز المالية في العالم.

الذين يُتاجرون بالسلع ليسوا تجارًا عاديين؛ بل لاعبون أساسيون في الاقتصاد العالمي وبفضل تحكمهم في انسياب موارد العالم الإستراتيجية باتوا "فاعلين سياسيين أقوياء". وهناك من يفوقهم قوة ونفوذا وهي الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات "الإمبرياليون الجُدد".

السلطة والكفن

فسر كارل ماركس نمط الإنتاج الرأسمالي من خلال تطور الصراع الطبقي بين طبقات برجوازية سُلطوية مالكة لوسائل الإنتاج وبين طبقة عاملة تبيع قوّة عملها العضلية والفكرية من خلال عائد الأجور. وتنبأ ماركس بأنَّ الرأسمالية ستُنتج توترات داخلية في النظم الاجتماعية والاقتصادية؛ ما سيؤدي لتدميرها ذاتيًا. وبغض النظر عن المفاهيم التحرُّرية التي تبنتها الأنظمة الرأسمالية إلّا أنها أثبتت عُقمها وتشوهها، لأنَّ الرأسمالية معنية بتراكم الربح وزيادة التوسع المكاني، فهي حقبة ليبرالية يتوافق معها تخفيض الأجور والإفقار مع مضاعفة الأرباح.

ويتسم النظام الرأسمالي بتكدس السلع العاجزة عن إيجاد مشترين في عالم يعمه الفقر والبطالة، ولتلبية احتياجات الأفراد تزداد الرغبات المُلحة وترتفع نسبة الانحرافات الاجتماعية.

يقوم النظام الرأسمالي على الاستيلاء والاستحواذ، وتُكتَنَز الثروات في هذا النظام في أيدي فئة معينة، قديمًا هي الفئات البرجوازية وحاليًا هي الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات، مُقصية بذلك مبادئ التنافس الحر والميول إلى نزعة تراكمية ومضاعفة الربحية وفرض أخلاقيات جديدة تستبيح بموجبها الاستغلال والاستيلاء باسم الحرية والمساواة.

الإمبريالية الأمريكية

تقوم الإمبريالية الأمريكية على الضرورات الاقتصادية وتختلف في تشكلها عن النظام الإمبريالي القديم القائم على الاستيلاء على الأراضي والحفاظ عليها. فتعتمد في فرض الهيمنة والنفوذ على استغلال الشريان المالي للعالم، فهدف أمريكا مفتوح وأوسع حراسة النظام العالمي وجعلة آمنا لحركة الرأسمال الأمريكي. يتم نزع الملكية العامة وتطويق أنظمة اجتماعية وثقافية في النظام الاستعماري القديم بقوة السلاح والإجبار، بينما يستخدم الإمبرياليون الجدد سطوة المال باستخدام أساليب النهب والتزوير عبر شركات استثمارية وإنشاء تكتلات تجارية إقليمية كمحاولة لمحاصرة ولجم العوالم.

تحول بذلك الاستعمار المباشر والتنافس العسكري إلى تنافس رأسمالي مصحوب بنزعة عسكرية إمبريالية جديدة، وظهرت طبقة من رجال الأعمال المتعجرفين يمتلكون مُقدرات مالية تفوق ميزانية دول، مثل إيلون ماسك الذي استحوذ على منصة تويتر وحوّل اسمها إلى "إكس"، مقابل44  مليار دولار، فمن أين تأتي هذه المبالغ الخرافية؟ الحقيقة أحد أكبر عمالقة الاستثمارات المصرفية هو من يدعم ماسك، ولا يمثل إيلون سوى درع يُصدر للإعلام بينما اللاعب الحقيقي يُحرك بمهارة الدمى. وغالباً ما تتحكم عملاقة استثمارية اكتنز بها الرأسمال باحتكار الاقتصاد العالمي، ومن أهم تلك التكتلات الاقتصادية BlackRock وVangguard.

بلاك روك

وشركة بلاك روك، عملاق إدارة الاستثمار والأصول تأسست في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، على يد الملياردير الأمريكي لاري فينك وروبرت كابينو، بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم وكشفت عن ممارسات مالية مشكوك فيها ضربت سمعة النظام المالي. وفكرة "إدارة الأصول" تعني إدارة مختلف الأصول من سندات وأسهم وعقارات؛ وبذلك تقوم بإدارة استثمار العملاء وإدارة المخاطر وتحقيق أقصى قدر من الأرباح.  وسيطرت الشركات الثلاثة: بلاك روك، وفانغارد، وستيت ستريت على إدارة الأصول في الولايات المتحدة. وتُدير بلاك روك لوحدها أصولًا تقدر قيمتها بـ10 ترليونات دولار؛ أي ما يُعادل ميزانية قارة بأكملها، وتملك أسهمًا في جوجل وآبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت.

المال يصنع السلطة، والسلطة تصنع المال.. لذا تغلغلت سلطة بلاك روك إلى حكومات ودول وتحولت إلى مستشار موثوق به لدى حكومات وبنوك مركزية. وتقوم الشركة بمجهودات موسعة من خلال الإنفاق ببذخ لتجنيد سياسيين ومسؤولي بنوك يمتلكون شبكة علاقات قوية. ومن العلاقات المعقدة والمثيرة بين بلاك روك الشريك الاستثماري لدول إقليمية وبين البيت الأبيض وإسرائيل. وهناك اتهامات لبلاك روك وتورطها في دعم شركات تُنتِج أسلحة للجيش الإسرائيلي ومتورطة مع شركات لديها مخططات استيطانية في غزة والضفة الغربية بفلسطين.

روبرت كابيتو

روبرت كابيتو رئيس مجلس إدارة بلاك بروك من أشد مؤيدي إسرائيل وكان يرأس منظمة مهمتها جمع التبرعات لصالح إسرائيل. سافر كابيتو في يناير 2016 إلى تل أبيب في مهمة خاصة التقى بها برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وخلال الزيارة، احتفل أيضًا بافتتاح فرع مؤسسته في إسرائيل واختار شارع روتشيلد في تل أبيب كعنوان للمقر، ولاحقًا أصبحت المؤسسة التي ساهم في تأسيسها الأضخم في العالم، وفرعها في إسرائيل الأول في الشرق الأوسط. وفي سنوات قليلة باتت مؤسسته أكبر شريك استثماري لدول إقليمية.

وتحوم الشبهات حول تورُّط مؤسسته في حرب الإبادة على غزة ودعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة وتمويل بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة وخصوصًا في غزة.

ولا يعد نموذج شركة بلاك روك ورئيسها كابيتو ألا نتاج ما أفرزته البرجوازية الرأسمالية الاكتنازية، إنهم الإمبرياليون الجدد، ولم يعد مفهوم الإمبرالية يقتصر على دول تحتل دولا أخرى باستخدامها القوة العسكرية؛ بل تحول إلى استعمال إمبريالي مالي حر مرتكز في شركة. تمتلك السطوة والنفوذ والقدرة على التحكم في الشريان الاقتصادي للعالم.

الأمم المتحدة وسياسة السلطة والكفن

تعمل منظمة الأمم المتحدة كجسر عبور للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات العابرة للقارات في إحكام قبضتها وسطوتها عبر برامجها التنموية المتنوعة ويتم إعادة استغلال واستحواذ على الثروات والأرض باسم التنمية الاقتصادية والترويج للرأسمالية المحلية والعالمية. مارست الأمم المتحدة دورًا فعّالًا في سيطرة التنمية الرأسمالية ومهدت لهيمنة البرجوازية العالمية، مُسهلة بذلك سلطة سياسية تُحفِّز التفقير وتضخ إلى سوق العمل عمالة مُستغلَّة بأجورٍ زهيدة.

 

عالمنا للبيع

يقف العالم اليوم على قارعة الطريق بين مطرقة تجار السلع وهم التروس التي تحمي النظام المالي، وبين القادة والمحركين الفعليين له "القوة الخفية"، وهي الشركات المُتعددة الجنسيات والعابرة للقارات وتمتلك سطوة ونفوذًا ضخمًا تشتري به السياسيين وتضع وتحدد القرارات المصيرية للدول والأفراد، ويصعب فيه اجتناب النظام الرأسمالي؛ فشرعيته تقوم على مشروع إمبريالي قديم الجذور أوسع نطاقًا ويصعب التحكم فيه.

الآن تتصاعد موجات الصحوة وفهم العموم حول الواقع المالي العالمي وفساد المنظومة الرأسمالية الإمبريالية، وقد ظهرت بوادره في تدرج ظاهرة "المقاطعة" من المنتجات إلى مقاطعة العلامات التجارية إلى مقاطعة الأفراد.

في خضم هذه التغيُّرات والتحوُّلات العالمية ألا يحتاج العالم الإسلامي إلى تشكيل تكتل اقتصادي ومنظومة مالية أخلاقية لا تتحكم بها الفردانية الصارمة والنزعة الاكتنازية الربحية؟!