من المنع ما استوجب الغضب

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

حينما نود أن نتحدث عن الكرم فإنَّ المقال في هذا المقام سيطول، والكرماء امتدحهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهم، وكان- صلى الله عليه وسلم- أجود الخلق وأكرمهم، وفي الكرم قيل الكثير، وكذلك عن الذي يقضي حوائج الناس بسرور ويسر ودون ضيق وتبرم ووجوم ومنة وسخط.

الكرم يعني عطاءً بالمال أو الغذاء أو الكساء أو توفير مسكن أو فك كربة أو إعانة مسكين وإغاثة ملهوف أو قضاء حاجة، أو سد دين أو تفريج هم أو تنفيس كرب، إلى نحو ذلك من أمور التيسير على النَّاس ومساعدتهم. والكريم لا يمُن بكرمه ولا يمل من كثرته وإن دام، فما عندنا من نعم ليست لنا وحدنا، وإنما للآخرين من عباد الله وخلقه لهم نصيب منها قل ذلك أو كثر، طال أو قصر. وفي هذا السياق أسرد قصة سمعتها؛ فاستوقفتني كثيرًا لما فيها من العظة والعبرة والتفكر.

يقول صاحبها: "منذ أكثر من خمسين سنة كانت لدينا مزارع وكنَّا حريصين على زراعة محاصيل كثيرة، وأن لا نفقد شيئًا مما نزرعه من أجل أن نحصده كاملًا. وفي يوم من الأيام كنت عائدًا من عملي، وإذا بي أرى مجموعة قردة تنزل من الجبل باتجاه مزارعنا، وخشيت أن تأتي إلى الزرع تأكل منه وتفسده وهو مُثمر وجاهز للحصاد، وكان بعضه من نوع البر الأحمر. فحينما رأيتها والحال كذلك، هرولت صوبها وإذا بها تهرب وتفر وتعود إلى الجبل، فعندما رأيتها كذلك، رميت أكبرها بسلاح ناري أصابته في مقتل، فانسحب جميع القطيع إلى الجبل، وإذا بتلك القرود تصيح هناك حتى أذهلني صياحها، فشدني الفضول فتتبعتها من أجل إبعادها عن الزرع لمسافات أبعد، ولاكتشاف سر صياحها. فظللت أمشي ناحيتها وإذا بي أرى القرد الكبير الذي هو أكبرهم، قد وصل بعد إطلاق النار عليه إلى مكان ما، وهو ميت مستقبلا القبلة ساجدًا كما يسجد الآدمي. ومن القسوة والطغيان الذي كان بي في تلك الأيام، مسكته من ذيله وجريته وهو ميت حتى أوصلته إلى شجرة خضراء، فربطته عليها من ذيله، وجعلت دمه يصب على جذعها. وبعد أيام بسيطة من هذه الحادثة، إذا السماء تمطر مطرًا غزيرًا وشديدًا به برد مع ريح، أصاب المزرعة كلها والثمر، واكتسحها وأبادها عن بكرة أبيها، واقتلعها من جذورها وأصابها كاملة، ولم يبقَ منها شيء أبدًا؛ فاختلط كل الزرع والثمر بالتراب. وأصبحت المزرعة بعد ذلك وما بها من زرع وثمر، هشيمًا تذروه الرياح لم نستفد منها مطلقًا، فأصابتنا حسرة وهم وضيق، وبعد الأمطار مررت على تلك الشجرة التي علقت فيها ذاك الحيوان، فإذا بدمه قد سال على جذعها فماتت، وقد كانت خضراء نضرة، فيا سبحان الله. عقب هذا الذي حدث جلست مع نفسي مُتفكرًا فيما جرى لي، فعرفت أن نتيجة ما حدث لي في المزرعة والشجرة، هو أنني أخطات في حق نفسي وفي حق تلك الحيوانات، والله تعالى عاقبني عقابًا مباشرًا وسريعًا، بسبب طردي وقتلي لذلك الحيوان هو وجماعته، وحرمتهم من أخذ شيء من الطعام والرزق من مزرعتي. عقب هذا الموقف سألت أحد مشائخ الدين عمّا حدث معي وفي المزرعة، وطردي لتلك الحيوانات، وقتلي لأكبرها. فقال ذلك الشيخ لقد ارتكبت خطأً كبيرًا، ويجب عليك أن تتوب وتستغفر؛ إذ إنه ما كان عليك فعل الذي فعلته بهذه الطريقة الوحشية والمهينة. لأنه طالما جاءت تلك الحيوانات تأكل من ثمر مزرعتك، فذاك الله تعالى ساقها، وكان لها نصيب مما زرعته، فكان رزقها كتبه الله تعالى لها عندك، فاحرص في المرات القادمة، أن لا تكون قاسيًا وشرسًا إلى هذا الحد، لأنه في كل كبد رطبة حسنة".

العبرة من هذه القصة أيها القاريء الكريم، أن لا نكون أولًا بخلاء؛ فالإنسان مُؤتمن على ما عنده من نعم، وإن ساق الله لنا من عباده يريد عونًا وشيئًا من تلك النعم، فعلينا أن نبادر ونكرم ونعطي بسخاء؛ فالناس للناس ما دام الوفاء بهم، والعسر واليسر أوقات وساعات، وأكرم الناس ما بين الورى رجل تُقضي على يده للناس حاجات. لا تقطعن يد المعروف عن أحد ما دمت تقدر والأيام تارات، واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات، قد مات قوم وما ماتت فضائلهم، وعاش قوم وهم في الناس أموات.

وفي هذه الأيام المباركة ستحل علينا مناسبة عيد الأضحى المبارك، فعلينا أن نعطي مما لدينا، وأن نُكرم مما نملك؛ فالكرم من أشرف الصفات التي قد يتحلى بها الإنسان، وهو استشعار روح التعاطف والتراحم والشعور بالغير في أوقات سعادتهم وشقائهم، والكريم يخلد اسمه في صفحات التاريخ وأخبر عنهم وأجلهم، فليس لأفراد المجتمع سعادة ولا اطمئنان ولا حلاوة ولا سلام ولا استشعار للراحة والرخاء إلا بالكرم. فلنكن أهل للخير والكرم، ولنخفف عن الناس عوزهم وفقرهم، ونشد أزرهم بما أنعم وفتح الله علينا.

تعليق عبر الفيس بوك