مرتضى بن حسن بن علي
ديفيد أوزبورن سياسي أمريكي عَمِل في مجالات عديدة وأصبح عضوًا في مجلس النواب الأمريكي، يقول في كتابه: "إعادة اختراع الحكومة"، إنَّ الأجهزة الحكومية الهَرَمية والمركزية المُصممة في بداية القرن العشرين، أصبحت كبيرة وثقيلة وبطيئة الحركة، وليست قادرة ببساطة أن تعمل جيداً في القرن الحادي والعشرين.
ولذلك من الضروري إيجاد أنواع جديدة من المؤسسات الحكومية لتحل مكانها لتمكين المجتمعات على تحقيق الأهداف وتركيز الاستثمار على النتائج. هناك علاقة مباشرة بين التنمية والجهاز الإداري الحكومي تساعد على تحقيق النتائج المرجوة وتؤثر هذه العلاقة دائمًا على مدى التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي تحققه أية دولة مؤدية إلى نتائج إيجابية أو سلبية. في سنغافورة مثلًا، ساهمت التشريعات المنظمة لجهاز الخدمة المدنية بتحويل البلاد من دولة جزيرة متخلفة اقتصاديًا واجتماعيًا إلى دولة متقدمة للغاية تتمتع بمستويات معيشة تعد من بين الأفضل في العالم، كما سهلت دخول رؤوس الأموال والشركات الجديدة، مما حول سنغافورة إلى المركز التجاري والمالي العالمي المُتقدم.
في عُمان تشكلت أجهزة الخدمة المدنية عام 1970 في وقت كانت تتسارع التغييرات العالمية المذهلة، وكانت امتدادًا لأجهزة الخدمة المدنية العربية العتيقة التي هي الأخرى بحاجة إلى إحداث ثورة حقيقية فيها. أجهزتنا بحاجة إلى تحديثها وتطويرها وترشيقها لتتمكن من تحقيق رؤية "عُمان 2040"، وتعمل بكفاءة وإنتاجية عالية مثل الشركات الناجحة وتكون لها القدرة على التجدد والتغيير، عكس ذلك سوف تفقد قدرتها لتحقيق أهدافها وتصاب بمزيد من الشيخوخة والعجز والترهل.
العالم من حولنا يتغير وبسرعة، مما يتطلب إصلاح الأجهزة الإدارية الحكومية بسرعة وتحريرها من البيروقراطية التي تحد من فعاليتها وكفاءتها. هذا الموضوع يشغل بال المفكرين والاقتصاديين عبر العالم، ونحن بحاجة إلى إنشاء جهاز للخدمة المدنية عالي الكفاءة وقليل العدد ومنخفض التكلفة نسبيًا.
النقلة الكبيرة التي حدثت في إدارة الأجهزة الحكومية في الدول المتقدمة، سببها الانتقال من المنهج التقليدي في الإدارة إلى منهج يقتبس الكثير من أساليب ونظم العمل المطبقة في الشركات الراقية، منها الاهتمام بالعميل "المُراجع" والتكلفة والإنتاجية، وتقييم العمل الحكومي وفقًا للنتائج النهائية المرتكزة على الأداء المؤسسي، وتبني أنظمة متطورة للمحاسبة الإدارية والمالية والبشرية. هذا المنظور لم يتغلغل في أجهزتنا الإدارية رغم كثرة الأصوات المنادية بذلك.
العمل الحكومي تكليف وليس تشريفاً وليس جائزة إلى الغنى أو الإهمال والتهرب من المسؤولية. وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة لا تعني فقط التقليل من أعداد الموظفين؛ بل تمتد إلى عمق فلسفة الإدارة وتشمل تغيير ثقافة العمل من جذورها وثقافة التعيين بالطريقة المتبعة. وهناك مناصب مُنحت لأشخاص يجهلون أبجديات الوظيفة التي يتربعون على كراسيها، وذلك يتطلب إعادة النظر بصورة جذرية في مفهوم الوظيفة العامة، وتغليب منطق الخدمة والعائد فيها على منطق السلطة.
الموظف العام يتلقى راتبه من الحكومة أي من المواطنين؛ لذلك فإن تقديم خدمة عالية الجودة لهم جزء أساسي من مسؤولياته، وليس مِنّة منه أو فضلًا يقدم إلى المراجعين. ومن واجبه والغرض من وظيفته، خدمة الجمهور بكفاءة وفعالية.هو مُدين لهم ولا يمتلك أية سلطة عليهم. كما من حقه أن يتلقى الخدمة المطلوبة من مكان تواجده، وهذا يتطلب بسرعة إنجاز الحكومة الإلكترونية التي كثر الحديث عنها منذ عام 1995، كما يتطلب تعميق نظام اللامركزية وجعله من أسس الجهاز الإداري للدولة الحديثة وتفويض الصلاحيات الكافية لكل مستوى إداري، وإعادة توزيع السلطات بين الأجهزة المركزية من ناحية ووحدات الإدارات المحلية من ناحية أخرى، بحيث تتركز سلطة اتخاذ القرارات عند المستوى التنظيمي المناسب وليس بالضرورة عند مستوى القمة. والموظف إنسان ومعرض لشتى أنواع الإغراءات، ومن أجل مصلحته، تكريس مبدأ المحاسبة ثَوَابًا أو عقابًا وعلى كافة المستويات الوظيفية، وتقييمه حسب أدائه ونزاهته والنتائج المحققة، وعلى دوره في ابتكار أحسن الطرق لتقديم الخدمة وبطريقة فاعلة.
الأجهزة الإدارية للدولة لا بُد أن تُدار أيضًا وفقًا للأساليب الاقتصادية وقابلة للتغيير والتطوير حسب تغير الزمن، ولذلك أصبح ضروريًا تخفيض أعداد الموظفين عن طريق استعمال الأتمتة، وتطوير مهاراتهم وخبراتهم باستمرار، ليكونوا قادرين على إنجاز عدة أعمال في وقت واحد.وعندما يقل عدد الموظفين وترتفع كفاءتهم وإنتاجيتهم، ترتفع مرتباتهم.
رواتب الموظفين في عُمان، تعد من أعلى بنود الصرف في الميزانية العامة للدولة، كما إن أعداد الموظفين في الجهاز الإداري للدولة، مرتفعة جدًا ومعدل عدد الموظفين في عُمان لكل ألف من السكان من المعدلات العالية، ويستنزف مبالغ كبيرة من الموازنة العامة، ومع ذلك تتصاعد الشكاوي من ضعف الخدمات وبطئها. وما أصاب الأجهزة الحكومية المختلفة من ترهل يعود إلى تدني المهارات المعرفية والإدارية وانعدام المساءلة.
التعقيدات البيروقراطية المنتشرة في الإدارات الحكومية تتنافى أيضًا مع مبدأ دولة المؤسسات والقانون كما تتعارض مع طبيعة العصر الذي نعيشه والمتسم بالسرعة والمرونة، ومع مضامين رؤية "عُمان 2040" التي تؤكد على كفاءة الأداء وتحسين الإنتاجية والابتعاد عن البيروقراطية العقيمة، ومع النهضة المتجددة ومع هدف الحكومة بتولي القطاع الخاص بتوسيع أنشطته أفقيا وعموديا، لتوفير الوظائف للباحثين عن عمل وتشجيع الشباب لإنشاء مشروعاتهم الخاصة. السلسلة الطويلة من الإجراءات المملة المعقدة والضعف في كفاءة بعض الموظفين وتدني إنتاجيتهم وانعدام رغبتهم بالتعاون مع المُراجعين، تُثير العديد من التعليقات والانتقادات من المراجعين، أفرادا ومؤسسات.
وإصلاح الأجهزة الإدارية للدولة يتطلب مجموعة من الإجراءات والسياسات لتحسين الأداء والإنتاجية. بعض الإجراءات التالية قد تكون مفيدة وفعالة لإصلاحها:
- عدد الخطوات اللازمة لإكمال المهام الإدارية وجعل العمليات أكثر وضوحًا وسهولة.
- استخدام تكنولوجيا المعلومات لأتمتة العمليات والخدمات، لتقلل الفساد والورق وتسريع الإجراءات.
- تقليل المستويات الهرمية والحد من عدد المستويات الإدارية لتسهيل اتخاذ القرارات.
- نقل العديد من الخدمات التي تقوم بها الحكومة إلى القطاع الخاص.
- تدريب وتطوير الموظفين للقيام بأفضل الممارسات لتحسين الكفاءة وتقليل الأخطاء.
- تقييم الأداء والمساءلة وتطبيق نظام فعال لتقييم أداء الموظفين والإدارات وجعلهم مسؤولين عن النتائج.
- تعزيز الابتكار وتشجيع التفكير الإبداعي لإيجاد حلول جديدة للمشكلات القديمة.
- مراجعة كل القوانين واللوائح الصادرة منذ عام 1970.
- الاستماع إلى شكاوى المواطنين والموظفين وتشجيع التغذية الراجعة لتحسين العمليات والخدمات.
- قيام كل وزارة ووحدة حكومية، بتحديد الفترة الزمنية المعقولة والمطلوبة لإنجاز أية معاملة أو إجراء وإذا لم يقم الموظف المعين بإكمال الإجراءات في حدود تلك الفترة، يتم مساءلته عن السبب، وإنزال العقوبة بحقه.
- إصدار تعليمات واضحة مع المتابعة المستمرة، من قبل مجلس الوزراء الموقر لكل الوزراء والوكلاء بالاجتماع بمديري العموم والمديرين، ليجتمعوا بدورهم بكافة الموظفين وإبلاغهم بالسياسات التي يجب اتباعها لتبسيط المعاملات وتقديم كل المساعدة للمراجعين والشركات وإن التهاون في الموضوع سوف يتم مواجهته بسلسة من الإجراءات التأديبية ابتداءً من رسالة تحذير للموظف ومرورا بالخصم من راتبه وانتهاءً بإنهاء خدمات الموظف، ويكون ذلك مدعوماً بقانون. على كل وزارة وضع صناديق للشكاوي لا يقدر أن يفتحها إلا موظف محدد من الوزير أو الوكيل.
ربما هناك عدد من المديرين لا يمتلكون أعباء المسؤولية الإدارية والوظيفية. ليس كل شخص يجلس على كرسي المدير يعي حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه والقدرة على إنفاذها.
ومن الأخطاء الشائعة أن تتم الترقية بصورة آلية بعد عدد معين من السنوات نتيجة الأقدمية حتى إذا انعدمت الإنجازات لدى الموظف، أو تتم الترقية حسب علاقة الموظف من قبل مسؤوله، أي تتم الترقية إذا كان رئيس الموظف راضيًا عنه لأسباب لا تتعلق بكفاءة الموظف المعني. وبعض الموظفين يتم ترقيتهم لوظيفة إدارية وهو ليس ملمًا بالإدارة، وقد لا يُطيقها.
وتُشير التجارب إلى أنَّ بعض الأسباب التي جعلت بعض الدول النامية تنجح نجاحا باهرا في تحقيق تنميتها، أنها استعانت بجهاز إداري للدولة ذات كفاءة عالية وبيروقراطية شبه مُنعدمة ومُنخفضة التكلفة نسبيًا، ووضعت سياسات لمراقبة الأداء عبر أنظمة الحوكمة والمساءلة والمُراقبة.
ويُعد تحسين وتطوير الجهاز الإداري للدولة من الأولويات الرئيسية لأي حكومة تسعى لتحقيق أهدافها وتعزيز مستقبلها.