علي بن سالم كفيتان
مُسافرون على رمال الشاطئ يستجدون بحر العرب لمنحهم الرحلة الأخيرة، لا توجد أمتعة، بضع رجال ونساء وعدد من الأطفال يجلسون على العدم، انتصف النهار وهم يُقرفصون ويستلقون أحيانًا على الرمال، يُغنُّون لهذا المحيط الأزرق وأمواجه التي أصبحت تتصاعد وتيرتها وتقذف بالماء المالح برغوته البيضاء وأعشابه الميتة إلى بيوت الطين وأطراف العشش، يُؤذن مسجد حارة الشنافر، رجل يؤذن بأعلى صوت يملكه من مئذنة على الطراز الحضرمي، ليبلغ الأذان آفاق الحصن (1) وأطراف الحصيلة (2)، حمل المنتظرون أنفسهم إلى صوت الآذان، تاركين رجلًا لمراقبة البحر، علَّه يجود بمركب أخير يقوده رُبَّان جريء من العفية (3).
لم تكن الناس تَهَاب الولوج إلى الحارة؛ فالشيخ لا يغلق بابه، والجميع يحذُون حذوه، لهذا اشتهر أهل هذه الحلة بمقولة تاريخية تركها الناس الفقراء والمعوزون والعابرون، وهي: "دخل مع الشنافر"، فبيوتهم مفتوحة، ونفوسهم طيبة رضية، يُؤمنون بروح الإخاء والتعدُّد، لهذا شملت الحارة أطيافًا كثيرة من الناس من شمال عُمان ومن اليمن ومن الريف والبادية، فتشكلت بكل ألوان الطيف.
بعد الصلاة، كل واحد من أهل الحارة أخذ ضيفه إلى منزله ليُكْرِمه بما تيسَّر، والنساء استقبلتهن النساء بكل ترحابٍ ومودة، بينما مُراقب المحيط صَعَد على نخلة النارجيل حتى وصل لعلو شاهق ليجدِّد نوبته البحرية، علَّه يرى شراعًا أو سارية قادمة من بعيد. وفي هذا الهجير، امرأة قادمة من الحارة على رأسها قفير من سعف مُغطَّى بقطعة قماش، تخترق بساتين النخيل، وصولًا إلى ذلك الصامد على الساحل، تُناديه من بعيد، وتضع الزَّاد على الأرض، وتعود أدراجها، حتى يذوب ظلها داخل مباني الحارة.
في الحارة الشرقية، كما يُسمُّونها، يسود النظام، ويُستتب الأمن، بتعاون أهالي المكان، فلا سرقات ولا نهب ولا تسكُّع في الحارة بعد صلاة العشاء، إلّا للضرورات.. تنطفئ المسارج الواحدة تلو الأخرى، كأنها كواكب غابتْ مبكرًا، باستثناء مسارج بيت كبير القوم وشيخ الزاوية، تبعث ضياءها من شرفة المحلة (4)، يسمعون في ذلك الليل الدامس ركضًا في الحارة، ليختفي كل شيء سريعًا، ومع تجليات الفجر على ساحل الحافة البَهيّ، يتعالى صوت المؤذن مُجدَّدا، فتدبُّ الحياة في المكان، ويتوافد الرجال والأبناء إلى ساحات المسجد عقب الصلاة، يعودون إلى مهاجعهم. ومع ارتفاع الشمس إلى كبد السماء تَفَاجَأ الجميع برجل مربُوط إلى نخلة وسط الحارة، اتَّضح أنَّه أحد الذين تربَّصُوا بأهلها في الليلة الماضية، لكنَّ حِرَاسة الشيخ أمسكتْ به بعد مطاردة مُضنية، فكانت العقوبة تقييده إلى جذع نخلة، ليراه القاصي والداني، وينال عقابَ ما صنع.
جَمَع المسافرون أنفسَهم من بيوت الحارة، وعادوا إلى الساحل لانتظار الرحيل المرتقب إلى الخارج، لا أمل يلوح في الأفق بقدوم مركب، فبحر العرب بدأ يغلي، والزبد بدأ يتطاير في الهواء، والنخيل تتراقص مع هبات الجنوب ونسماته الباردة.
كثيرٌ من هؤلاء لن يعودوا إلى الريف أو البادية، أو إلى بلدانهم، فقد حَلَا لهم المقام هنا، فعمروا عرشانهم من سعف النخيل وجذوعها، وصاروا ضمن أصحاب المهن: من يُجيد من قبل، ومن يتعلم صنعة جديدة ليتكَّسب منها، ينالهم كرم حارة الشنافر، ويستمدون الأمان والحزم من روح شيخها وأهلها، فهنا يُقبل الجميع، ويمنح الفرصة للكسب الحلال. تتطور العلاقات، وتداخل المصاهرات، لتبنِي مدينةَ الحافة وتشكِّل هُويتها التي انعكستْ فيما بعد على كل أهل ظفار؛ حيث أصبحت قصبتهم وسوقهم وملتقى أفئدتهم، فبساتينها ساحات للصُّلح، وساحاتُها ميادين للهبوت والزامل (5)، على أطرافها الفرضة (6) وقصر الحصن وبرزة الوالي التي تُقضَى فيها كل الحاجات؛ حيث يجتمع المتخاصمون، ويأتي الطالبون لإذن السفر، وتُعرض المحاصيل التي تمَّت جبايتها من المزارعين للبيع بالجملة عبر صيحات الدلال: "سبع مكاكيك (7) بـ.... سبع مكاكيك بـ.....، يتحلَّق حوله التجارُ وحشود الحاضرين لتُبَاع اخيرًا لمن يدفع أكثر إلى خزينة الوالي.
وما زلنا نبحث عن هُوية لمدينتنا التي طَمَرنَاها في التراب ما بين ميدان المهرجان في إيتين، وعودة الماضي في الحافة قبل عام وهجرته إلى السعادة هذا العام، تمنيتُ لو استُحضرت الصورة الذهنية للحافة، ورُسمت كما كانت، وأُعيد إعمار الحارات القديمة في صلالة وعوقد والدهاريز، لتبعث هُوية المدينة المفقودة؛ فالسواح لا يبحثون عن مقاهي الكوفي وعربات الطعام في السيوح والبراري؛ بل عن الهُوية الحضارية والعُمق الإنساني للمدينة.
----------------------------
1- الحصن - الحصيلة: أحياء سكنية مجاورة للحافة
2- العفية: رمزية تاريخية لمدينة صور العُمانية موطِن الربابنة والسفن
3- المحلة: صالة مطلة من الطابق العلوي في البيت الظفاري
4- الهبوت - الزامل: فنون شعبية مغناة للرجال
5- مكوك: وحدة قياس محلية للحبوب.