عبد النبي العكري
تحل الذكري السادسة والسبعين لنكبة فلسطين 1948، ونكبة العرب هذا العام، فيما تجري أمام أنظار الشعب الفلسطيني والعرب والعالم أجمع، وعلى الهواء مباشرة، وقائع نكبة جديدة في غزة، مترافقة مع عمليات خطيرة في باقي فلسطين المحتلة، ولكن ذلك يواجه بمقاومة بطولية ضد المحتل الصهيوني، فما هي أصداء النكبة في فلسطين وفي المحيط العربي وعلى امتداد العالم؟
إنَّ من أهم نتائج "طوفان الأقصى"، وما تبعه من حرب إبادة صهيوينة ضد الشعب الفلسطيني في غزة بشكل خاص وباقي فلسطين المحتلة، أعاد إلى النقاش والاهتمام العالمي ما تعرض له الشعب الفلسطيني من نكبة فعلية قبل 76 عاما، وترتب عليها اغتصاب معظم فلسطين وتشريد نصف شعبها (حوالي 800 ألف)، وإخضاع من تبقى منهم في فلسطين، وإقامة دولة "إسرائيل" كوطن قومي ودولة للشعب اليهودي كما يزعمون.
وكما سادت السردية الصهيونية والغربية حينها من أنَّ اليهود كانوا يخوضون الحرب من أجل الاستقلال ضد جيش الاحتلال البريطاني والمسلحين الفلسطينيين في ظل الحكم البريطاني، فقد طمست أو همشت الوقائع التاريخية من تآمر بريطانيا المناط بها الوصاية على فلسطين من قبل عصبة الأمم والحركة الصهيونية، وبدعم من قبل الغرب، لتمويل وهجرة وتمكين اليهود للاستيطان في فلسطين على حساب شعب فلسطين. وترافق ذلك مع قيام بريطانيا بتسليح العصابات العسكرية الإرهابية الصهيونية؛ مثل: الأرجون وشترن، مقابل نزع سلاح المقاومة الفلسطينية وشن الحرب والعمليات القمعية والأمنية ضدها وإخمادها بتواطؤ من قبل الدول الغربية بقيادة أمريكا، وعجز فاضح من قبل عصبة الأمم ومن بعدها الأمم المتحدة، بل ومن قبل دول عربية.
وهنا، يجب التأكيد على أنَّ الفلسطينيين رغم ذلك قاوموا ببسالة القوات الاستعمارية البريطانية والقوات الإرهابية الصهيونية، كما لم يبيعوا أراضيهم وبيوتهم لليهود، بل إن بريطانيا استولت على أراضي الدولة ثم أملاك الغائبين الفلسطينيين الذين هُجِّروا بفعل الإرهاب البريطاني الصهيوني، وسلَّموها للوكالة اليهودية ولليهود.
هذا الاختلال في واقع القوى على أرض فلسطين، وارتهان الدول العربية حينها للغرب وهيمنة الغرب العالمية، هو ما مكن الحركة الصهيونية وبريطانيا من العمل لتحويل الاغتصاب الصهيوني إلى كيان دولة "إسرائيل"، والاعتراف بها من قبل الأمم المتحدة والعديد من دول العالم.
وتذكُر الوقائع أنَّ بريطانيا التي أنيط بها الانتداب على فلسطين من قبل الأمم المتحدة لتأهيلها للاستقلال، قد خانت الأمانة، وعملت على الضد منها، ولما حان قطف ثمار المؤامرة أعلنت بريطانيا أنها ستنهي انتدابها في 1 أغسطس 1948. وفي الوقت ذاته، فإن العصابات الصهيونية وبريطانيا أفشلتا جهود الأمم المتحدة لتقصِّي الحقائق وحفظ حقوق الفلسطينيين وأشهرها اغتيال الوسيط الدولي كونت براندوت.
وعلى الصعيد الدولي، عملت الحركة الصهيونية والبنية الصهيونية على أرض فلسطين والغرب بقيادة أمريكا على تنفيذ خطة إضفاء الشرعية على الوجود الاستيطاني اليهودي في فلسطين، ومن أهم أدواتها الأمم المتحدة. ومن هنا، جرى التخطيط لتقسيم فلسطين ما بين اليهود والعرب، ضمن مخطط الاستيلاء الصهيوني على كامل فلسطين ومحيطها فيما يعرف بـ"إسرائيل الكبرى". وفي 29 نوفمبر 1947، وبعد ضغوط هائلة من قبل أمريكا وحلفائها والصهيونية العالمية على العديد من الدول الأعضاء من دول ناشئة، جرى التصويت على مشروع القرار رقم 181 بتقسيم فلسطين ما بين اليهود والعرب الفلسطينيين؛ بحيث يحصل اليهود على معظم الساحل الفلسطيني، والمتصل مع باقي الأراضي الفلسطينية شرقا وجنوبا، في حين أنها خصَّصت للعرب الفلسطينيين أراضي غير متصلة؛ وهي يافا وغزة على الساحل الفلسطيني، وجزء من الجليل والضفة الغربية وأم الرشراش على خليج العقبة. وفي حين كان اليهود يمثلون أقل من ثلث السكان، ويملكون 7% من الأراضي الفلسطينية، فقد منحوا 56.5% من أرض فلسطين، فيما الفلسطينيون والذين بقوا في فلسطين رغم المجازر -يمثلون حوالي 67% من السكان- فقد خُصِّص لهم 41.5.% من أرض فلسطين، فيما تقرر أن توضع القدس ومحيطها تحت الوصاية الدولية، ويُخصَّص لها 1% من أرض فلسطين. كما نصَّ القرارُ على إنهاء الانتداب البريطاني مع بقاء القوات البريطانية حتى 1 أغسطس 1948 كنهاية لانتدابها، ولتنفيذ قرار الأمم التحدة بالتقسيم وقيام الدولتين.
وبالطبع، فإنَّ قرار تقسيم فلسطين قرار مُجحف وغير شرعي من وجهة نظر القانون الدولي للأمم المتحدة ذاتها، وأثمرت ضغوط الغرب والصهيونية بموافقة 33 دولة على مشروع القرار، ومعارضة 13 دولة، وامتناع 10 دول عن التصويت، والذى رفضه الفلسطينيون والدول العربية المستقلة حينها المُمثلة في الأمم المتحدة.
وترتَّب على ذلك ميدانيًّا قرار بتشكيل جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، وضم قوات من الدول العربية المجاورة، وتم تدريب الفلسطينيين وتسليحهم. واستمرت عمليات المقاومة الفلسطينية غير المتكافئة مع القوات الصهيونية التي يتدفق عليها السلاح والمدربين والمدعومة من قبل قوات الاحتلال البريطانية، وترتب على ذلك احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية؛ بحيث اقتصرت في النهاية على 22% من أراضي فلسطين؛ هي: الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، ووضعت تحت الوصاية الأردنية، وقطاع غزة الذي وضع تحت الوصاية المصرية، وتم تهجير المزيد من أبناء الشعب الفلسطيني.
وعلى أرض فلسطين، استثمر الصهاينة سيطرتهم على الأراضي الفلسطينية ودعم قوات الاحتلال البريطاني وتأييد الدول الكبرى لفرض الأمر الواقع، وإعلان قيام دولة "إسرائيل" في 15 مايو 1948، ومن خلال التحالف الصهيوني الغربي فقد سارعت الدول الغربية، بل والاشتركية، للاعتراف بدولة "إسرائيل".
ومرة أخرى، طُرِحت قضية فلسطين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ حيث تقدَّمت بطلب عضوية الأمم المتحدة، وقد قبلت "إسرائيل" كعضو في الأمم المتحدة بموجب القرار 273 بتاريخ 11 مايو 1949 بأغلبية 35 عضوا، بما فيها الدول الكبرى، وجاء ذلك بعد تمرير قرار مجلس الأمن رقم 69 بتاريخ 4 مارس 1949 بالتوصية بذلك. وقد اشترط القرار التزام "إسرائيل" بميثاق الأمم الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة بفلسطين؛ ومن أهمها: القرار رقم 194 بتاريخ 11 سبتمبر 1948 "بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة لديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، أو تعويض من لا يرغب في ذلك". لكن "إسرائيل" لم تسمح بعودة أيٍّ من 800 ألف لاجئ الذين أجبروا على النزوح خلال حرب 47-1949، والذين يتجاوز عددهم حاليا 6 ملايين لاجئ فلسطيني في دول الجوار والعالم. كما أنها استولت على 24% من أرض فلسطين المخصصة للعرب بموجب قرار التقسيم. واستمرت في شن الحروب ضد الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، وضم مزيد من الأراضي ضمن مخطط "إسرائيل الكبرى".
وإثرها، أرسلت الدول العربية المحيطة بفلسطين -وهي مصر والأردن وسوريا والعراق- قوات إلى فلسطين، وانتشرت في الأراضي المخصَّصة للعرب الفلسطينيين، وهي قوات محدودة العدد وسيئة التسليح وتفتقد للقيادة الكفوءة والسيطرة الفعلية، وبالمقابل فقد كانت القوات الصهيونية مُدرَّبة ومسلحة جيدا، ومدعومة بقوة من قبل القوات البريطانية. وكلنا يعرف النتيجة، فقد ضغطت الدول الغربية من أجل وقف إطلاق النار، وترتب عليه اتفاقات الهدنة في رودس في 1949 بين الدول العربية ذات القوات في فلسطين مع القوات "الإسرائيلية"، وانسحاب قواتها من فلسطين، باستثناء القوات الأردنية في الضفة الغربية والقوات المصرية في غزة.
ورغم ذلك، فقد عمدت "إسرائيل" إثر حرب يونيو 1967 وهزيمة العرب الكبرى إلى احتلال ما تبقى من فلسطين، إضافة إلى سيناء المصرية والجولان السورية، ولم تنسحب منها رغم قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22 نوفمبر 1967. وإثر حرب أكتوبر 1973 المجيدة، والتي حقق فيها العرب (مصر وسوريا) انتصارات مهمة في بدايتها لاسترجاع أراضيهم المحتلة، فقد تعثر هذا الانتصار، وتدخلت الأمم المتحدة مرة أخرى، وصدر عن مجلس الأمن القرار 338 بتاريخ 22 أكتوبر 1973، والذي يدعو الأطراف المتحاربة إلى وقف إطلاق النار وتنفيذ قرار مجلس الأمن 242/1967 بجميع أجزائه، وبدء مفاوصات بين أطراف الصراع لإقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط. وهنا أيضا لم تنسحب "إسرائيل" من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
ويُعتبر قرار القمة لجامعة الدول العربية في القاهرة في 1 يناير 19064 بإقامة منظمة التحرير الفلسطينية، تحولا مهمًّا في التعاطي العربي مع القضية الفلسطينية. ونتيجة لذلك، عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس في 28 مايو 1964، وقرر إقامة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في فلسطين والشتات، وانتخبت لجنة تنفيذية رأسها وقتها أحمد الشقيري، وهدفها تحرير كامل التراب الفلسطيني. وجاء انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة بقيادة فتح في 1 يناير 1956 ليدشن مسيرة الشعب الفلسطيني لتحقيق ذلك.
لكنَّ كثيرا من التطورات حالتْ دون تحقيق مشروع الثورة والتحرير لأسباب فلسطينية وعربية ودولية، وطبيعة الخصم الصهيوني وتحالفاته، وقد انطلقت الثورة الفلسطينية من خارج فلسطين ومن قِبَل عدة فصائل، ولم تتوافر للثورة الفلسطينية ساحات الاحتضان الداعمة. والمحصلة هي عدم نجاح الفلسطينيين ودول الطوق في تحرير الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. أما التطور الخطير، فهو التخلي عن فلسطين كقضية قومية من خلال اتفاقيات التطبيع (كامب ديفد، وأوسلو، ووداي عربة) وتبعتها الاتفاقيات الإبراهيمية.
النكبة مجددا والبطولة في غزة
في الذكرى الـ76 لنكبة فلسطين، هناك نكبة أخرى تجري في فلسطين منذ انطلاقة طوفان الأقصى؛ حيث تشن "إسرائيل" حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وعمليات عسكرية وأمنية لا سابق لها في الضفة الغربية، وهي الآن في شهرها الثامن، وقد ترتب عليها خسائر لا سابق لها في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، أو الحروب المعاصرة، حيث يُستهدف المدنيون بمجازر إبادة، ويُدمر كل ما هو قائم على الأرض، ويُفرض حصار تام على القطاع الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم، بحيث تجاوز الشهداء 35 ألف شهيد، إضافة إلى آلاف المفقودين بين ركام المباني المهدمة، وما يزيد على 80 ألف جريح، وتدمير أكثر من 85% من المباني؛ بما فيها المدارس والمستشفيات والبنية التحتية، وتحول أكثر من مليوني فلسطيني إلى نازحين.
وتقوم "إسرائيل" حاليا بعملية برية تدميرية في محافظة رفح؛ حيث يحتشد ما يزيد على 1.5 مليون لاجئ في عملية إبادة لا سابق لها في الحروب، إضافة لعملياتها في باقي القطاع. وهدف "إسرائيل" -إضافة للقضاء على المقاومة- إجبار الفلسطينيين على النزوح من قطاع غزة إلى سيناء مصر، في إطار التخلص من الفلسطينيين، وإحلال المستوطنين في فلسطين المحتلة لاستكمال التهويد؛ من أجل دولة "إسرائيل" اليهودية.
في ذات الوقت، ومنذ 7 أكتوبر 2023، تصاعدت في الضفة والقدس الشرقية العمليات العسكرية والأمنية، وتهديم بيوت الفلسطينيين، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، ومهاجمة القرى والمخيمات، بمشاركة المستوطنين لإجبار الفلسطينيين على النزوح للأردن، امتدادًا لعمليات التهجير القسري منذ نكبة 1948.
لكنَّ الفلرق بين نكبة 1948 والنكبة الحالية، هو المقاومة الباسلة في قطاع غزة والضفة الغربية ضد قوات الجيش الإسرائيلي "الذي لا يُقهر"، والذي ألحق الهزائم المتكررة بالجيوش العربية، والذي كان يحسم حروبه ببضعة أيام، وإذا به يواجه حربَ استنزاف دخلت شهرها الثامن دون قدرته السيطرة على قطاع غزة، ولا إجبار أهلها على النزوح، وتكبدة خسائر لا سابق لها، مع شمول الحرب للداخل الفلسطيني المحتل، ونزوح مئات الآلاف من المستوطنين.
هناك أيضا فارق جوهري ما بين نكبة 1948 والنكبة الحالية، وهو أنَّ العالم يتابع ما يجري على الأرض الفلسطينية من مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين. ورغم وضوح طبيعة حرب الإبادة، وما أكدته محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية المستقلة، فقد استمرَّ الغرب -بقيادة أمريكا- في مشاركة ودعم الكيان الصهيوني عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، وتحصينه من المساءلة، والاستمرار في حرب الإبادة. ومن هنا، انطلقت حركة احتجاجية طلابية جامعية أمريكية واسعة، ثم انتقلت إلى أوربا وبلدان أخرى شريكة لـ"إسرائيل" في حربها، مُطالِبَةً بوقف فوري لحرب الإبادة، ووقف دعم حكوماتهم لـ"إسرائيل"، ووقف استثمارات جامعاتهم في شركات تدعم "إسرائيل"، وتطورت حركة نصرة الشعب الفلسطيني لإدراك مدلولات حرب الإبادة وطبيعة الدولة "العنصرية الإسرائيلية"، والمطالبة بدولة فلسطين الديمقراطية لجميع أبنائها على أنقاض دولة الفصل العنصري.
كما أنه من خلال تداعيات هذه الحرب، فقد أعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية مجددا كقضية شعب تعرَّض لظلم لا سابق له من قِبَل الصهيونية العالمية ومنظومة الدول الغربية الرأسماية، وفي خرق واضح للقانون الدولي وإحباط للمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية...وغيرها. هناك مجموعة من الدول المتحرِّرة من النفوذ الصهيوني والهيمنة الغربية، وفي مقدمتها جنوب إفريقيا، ودول في أوروبا؛ مثل: إسبانيا، وأمريكا اللاتينية؛ مثل: كولمبيا، تقف مع الحق الفلسطيني وتتصدَّى للظلم الصهيوني الغربي.
إذن؛ هناك حركة وعي جديد بالخلل العميق في النظام العالمي وطبيعة الدولة المعادية للإنسان وحقوقه، وهي الحركة الإنسانية في مواجهة التوحش الصهيوني الغربي.
... إن فلسطين ضحية النظام العالمي الرأسمالي والصهيونية العالمية، وهي في الوقت ذاته انطلاقة للبشرية من أجل استعادة إنسانيتها وكرامتها وقيم العدالة والحقوق لجميع أبناء البشرية.