الأم.. وقدسيَّة حياة

 

 

مُحمَّد بن رامس الرَّواس

عندما نعيشُ مع أناسٍ أعزَّاء، نُحبُّهم ويحبُّوننا، قد لا نكتشف جميع مآثرهم وسماتهم ونحن معهم، لكن وبعد فُرَاقِهم وفقدانهم تتَّضح لنا العديد من خِصَالهم وطباعهم السامية العظيمة.

لقد كانْ لأمي -رحمها الله- مآثر كثيرة؛ منها: تيسيرها للأمور، ومباركتها لكل عمل فيه خير، وعدم قولها لا، أو مُعارضتها لشيء فيه صلاح للجميع، وإن كان على حساب حقِّها؛ فهي لا تُحبُّ أن تُشعِرَ من حولها بأدنى أنواع التعب أو الإرهاق، ولو بأقل القليل، كما أنَّها لا تحب أن تُثقِل أحدًا بمطالبها حتى ولو كانوا أبناءها، سواء بقول أو فعل؛ فأخلاقها السامية لا تسمح لها بتعنيف أو توبيخ من حولها، رغم أنه قد يكون على غير حق؛ فتشعر وأنت معها أنك مع إنسان لا تخشى معه ضررًا قد يُصيبك، أو أن يقول لك قولً قد لا يُعجبك، أو كلامًا قد يُزعجك، فتستأنس في الجلوس معها: كرمًا في قولها، وعطفها، وعطائها، ولطف أفعالها.

رَحِمَ الله أمِّي.. فقد كانت من المُحْسِنات، والمُكِثرات من الدعاء للجميع بالصَّلاح والنجاح والفلاح، ومن المُوَاظِبَات على كثرة الصلاة على النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- حتى تصل لألف صلاةٍ باليوم؛ بقولها: "اللهم صلِّ وسلم على سيدنا مُحمد وآله واملأ قلوبنا بأنواره عددَ نعم الله وأفضاله"، وهذا الرقم هو المتوسط، فقد تزيد في أحيان كثيرة على ذلك طمعًا في نيل بركات الصلوات المباركات على رسولنا الكريم.

إنَّ رَابِطة الأمومة القدسية التي زَرَعَها الله في أفئدة الأمهات لا تتأثر بالزمان ولا بالمكان، فهي من أعظم القيم الإنسانية وأهمها، التي أوْدَعَها الله بقلوب البشر، ولقد اجتمعت كافة العقائد والأديان على ذلك وتوحَّدت عليه؛ فهذه المحبة قيمة كبرى في الأمم والمجتمعات.

إنَّ برَّ الأمهات على أحسن وجه يجعل الإنسانَ يعيشُ سعيدًا ومحبوبًا بين الناس؛ فهي مصدرُ صلاح علاقة الإنسان بربه، وينبوع الحنان والإحسان والمحبة الذي يفيضُ خيرًا لنا. هُنَّ مصدر كل خير من السمات الفاضلة، وبفضلهن نقوم بتصدير هذه السمات لغيرنا، وعند برِّنا بهنَّ ذلك البر الذي أمر الله به، نرى بأمِّ أعيننا أبناءنا يقومون بمثله معنا.

محبَّةٌ عظمية وقُدسيَّة حياة لا تنتهي، تلك هي الأم باختصار؛ فهي رابطة محبة وفؤاد مليء بالشفقة، يحنو عليك ويدعو لك في غيابك وعند سفرك وعندما تبتعد عن ناظريها.. قال تعالى: "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ".

إنَّ طاعة الأم ورضاها بابٌ من أبواب الجنة؛ فبما تملكه من رحمة أودعها الله بفؤادها إنَّما هي رحمة مُتصلة برحمته عز وجل بالناس، وعندما نفقد أمهاتنا تتقلَّص في الحياة أمور كثيرة، ونفقد ركنًا من أركان الحياة كان ينبوعَ رحمة يدعو لنا، كما تنقطع عنا إحدى السُّبل التي تُوْصِلنا إلى الجنة، وينقطع معها واحدٌ من أفضل الأعمال ألا وهو البر.. لقد قضى الله وأمر في مُحكم التنزيل ببر الوالدين، وتقدَّمت الأم بثلاث درجات لتصبح قُدسيَّة بِرِّهَا هي السِّراج المنير لنا بالحياة.

وختامًا.. لم يبقَ لنا من بِرِ أمهاتنا بعد مماتهن إلا الدعاء والتصدق وبر أرحامهن؛ فذلك هو الوفاء والإحسان لهن بعد مماتهن، رحم الله أمهاتنا وأسكنهن الفردوس الأعلى من الجنة.