وانقلب السحر على الساحر

 

محمد بن سالم البطاشي

 

"وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" (المدثر: 31) صدق الله العظيم.

جرت في تاريخ الأمم وقائع مفصلية حددت مسار الأحداث ودفعتها؛ حيث استقر بها المقام في مسيرة الحضارة الإنسانية، ولقد تكررت هذه الأحداث عبر التاريخ البشري وأحدثت نقلات نوعية في مصائر أمم كثيرة منها تلك التي قصها الله في كتابه العظيم ومنها لم يقصصها.

هناك مصائر قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع وغيرها من الأمم الغابرة، كما أن هناك معارك فاصلة في تاريخ الإسلام غيرت مجرى التاريخ الإنساني إلى الأبد منها الهجرة النبوية الشريفة، وغزوة بدر وفتح مكة ومعركة القادسية ومعركة اليرموك وفتح بلاد السند ومعركة جبل طارق، ومعركة حطين وسقوط بغداد وإنهاء دولة الخلافة العباسية ومعركة عين جالوت ومعركة بلاط الشهداء وغيرها من الوقائع الكبرى.

وإذا نظرنا إلى التاريخ الحديث نجد أحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية وما نتج عنهما من تغيرات استراتيجية عظيمة لا زالت تؤثر على عالمنا المعاصر وقلبهما وعد بلفور وما نتج عنه من مآسٍ لا تزال تؤثر على الأمة العربية حتى اليوم وحرب فيتنام ونكبة 48 ونكسة 67 ونصر أكتوبر 1973. وحروب الدول  العظمى في أفغانستان وما نتج عنها من تفكك الاتحاد السوفيتي وتراجع النفوذ الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهندي وسقوط بغداد وما نتج عنها من تراجع القوة العربية وتغول النفوذ الأمريكي في المنطقة وانبطاح البعض والهرولة الى التطبيع مع العدو وحرب لبنان وانكسار العدو. ثم تجري الأحداث متسارعة بعد ذلك إلى أن نصل إلى "طوفان الأقصى" ومعركته المستمرة إلى اليوم، وما أفرزته من تحوُّلات هائلة على الوعي والرأي العالميين، في عقر دار الصهيونية في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا ودول عديدة أخرى.

وبرز بعض تجليات ذلك التحول في المظاهرات التي شهدتها مدن عالمية عديدة؛ حيث سقطت ورقة التوت التي تخفت خلفها الأساطير الصهيونية والتي روجت لها طوال أكثر من قرن من الزمان، من خلال الآلة الإعلامية الهائلة التي تمتلكها كالصحف والإذاعة والتلفزيون والسينما والمفكرين والكتاب وقادة الرأي وصناع القرار والدعاية والإغراء والسيطرة على السياسيين والقادة وأصحاب الأعمال بأساليب مبتكرة وخبيثة وكلها هدفت إلى السيطرة على الوعي والرأي العام الغربي وتخديره وتضليله، وتسخيره لخدمة أهدافها الجهنمية. كما هدفت كذلك إلى السيطرة على المال والبنوك والمؤسسات التمويلية الدولية؛ كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لضمان السيطرة المالية على بقية الدول في العالم وتوجبه اقتصادياتها نحو خدمة مشاريع الصهيونية والرأسمالية المتحالفة معها والمجمعات الصناعية والدوائية العالمية التي تسعى لتأجيج الصراعات العالمية وبث الفتن ونشر الأمراض لخدمة مصالحها. كما أن السيطرة على الجيل الشاب والنوابغ وأبناء الصفوة كان ولا يزال أولوية قصوى لهذه المنظمات الشيطانية، وذلك من خلال المؤسسات العلمية والأكاديمية ومؤسسات البحث العلمي ومعاهد البحوث الإستراتيجية.

إن تركيز الصهيونية على تلك المؤسسات العلمية يهدف إلى تجنيد طاقات الطلبة والمؤسسة الأكاديمية من أجل خدمة الأهداف الصهيونية العالمية الخبيثة وفي مقدمتها إسرائيل عن طريق الترويج للسردية الصهيونية وطمس الحقائق والتعمية عليها ودفعهم إلى القناعة التامة بوجهة النظر الصهيوإسرائلية في الصراع العربي الإسرائيلي، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الاقتصاد الأمريكي وإفلاسه، ومن يعارض هذه الآراء وينحاز إلى الحقيقة أو يحاول البحث عنها في هذا المحيط الهائل من الأكاذيب والتضليل يكون التدمير الكامل لمستقبله وحياته ومصيره أمرًا محتومًا. وأحيل القارئ الكريم إلى كتاب النائب الجمهوري بول فندلي وكتابه المتميز "من يجرؤ على الكلام"؛ ليطّلع على ألاعيب اللوبي الصهيوني وكيف يسيطر على سياسات أمريكا الداخلية والخارجية.

هل أتاكم حديث جامعة كولومبيا؟!

هناك في هذه الجامعة العريقة التي تضم أبناء الصفوة من السياسيين ورجال الأعمال والأكاديميين والنوابغ، حدث ما لم يكن في الحسبان أو حتى في الخيال؛ حيث انقلب السحر على الساحر وانفرط العقد وأفلت الزمام وخرج المارد من قُمقُمه، وعمّت المظاهرات 40 جامعة أمريكية حتى الآن، وامتدت لتشمل جامعات أوروبية كثيرة؛ وهي تكبر كل يوم وتزداد شعبيتها وتنتشر من جامعة إلى أخرى.

بمعنى آخر.. إن الجيل الشاب قد استفاق على وقع جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو في غزة، واسترد ضميره وعقله وقلبه وإنسانيته؛ وسقطت الغشاوة عن بصره وبصيرته، وأصبح تفكيره مستقلا وتخلص من وصاية الإيباك وباقي أذرع الصهيونية والماسونية المتغلغلة في مؤسسات الدولة العميقة، وأصبح مستقلًا في تفكيره وتصوراته بعيدًا عمّا تمليه عليه أدوات الإعلام المختلفة وتسلط وإلحاح المفكرين والمحللين وقادة الرأي المتصهينين حتى النخاع.

هي صحوة ضمير تحررت فيها العقول وكسرت القيود وسقط فيها الكثير من الزيف والتحريف والبهتان والأباطيل التي كانت تعتبر من البديهيات والمسلمات، وسيشرق نور الحقيقة ناصعًا وضّاءً على عقول وقلوب كثيرة، وسيتغير معها مجرى الرأي العام العالمي في معركة الوعي التي يقودها الجيل الشاب، الذي سيحكم تلك الدول ومعهم أصحاب الضمائر الحية من الأستاذة والفلاسفة والمفكرين ونجوم الفن، الذين سقطت الغشاوة عن أبصارهم ورأوا الحقيقة ناصعة تتجلى أمامهم، وملهمهم في ذلك غزة العزة وصمودها الأسطوري.

وبالتزامن مع هذا الحراك العالمي، سقطت أقنعة النظام السياسي الغربي وظهرت عورات النظام العالمي الذي يُرَوِّجُون له ليل نهار، وكشّرت ديمقراطيتهم الزائفة عن أنيابها اللعينة، وأعتُقِل المئات من الطلبة والأساتذة المسالمين، لمجرد أنهم تظاهروا نُصرةً للحق، وتضامنًا مع أبناء غزة، مُستنكرين جرائم الحرب والإبادة الجماعية لشعب غزة الأعزل وجُلُّهم من الأطفال والنساء والشيوخ، ومُنددين بالتعاون العلمي والتعامل المالي لهذه الجامعات مع الكيان الصهيوني..

إنَّه "طوفان الأقصى" الذي أيقظ عقولًا من سُباتها، وألهب المشاعر بعد طول تبلُّدٍ، وحرر أفكارًا من عقالها، وأطلق جذوة مُتّقدة سيحرق لهيبها كل الطغاة والظالمين في العالم.