أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
بعد العملية البطولية التي قامت بها حركة "حماس" في السابع من أكتوبر 2023، واستخدمت فيها سلاحًا سهلًا وممتنعًا في اختراق القبة الحديدة للعدو الصهيوني، جن جنون العدو وقام باستخدام أسلحة فتاكة محرمة دوليًا في ضرب المدنيين العزل، ومن الأسلحة التي تم استخدامها ما يعرف بالقنابل الفوسفورية، وهي قنابل تتكون وبشكل أساسي من عنصر الفوسفور، ويدل استخدامها على الحقد الدفين وفقدان كل القيم الإنسانية فهذه القنابل لا تسعى إلى قتل الإنسان فحسب؛ بل تجعله يتعذب ويتعرض إلى آلام مبرحة قد تصاحبه لفترات طويلة.
والغريب في عنصر الفوسفور المستخدم في هذه القنابل، أنه يُعد من أهم العناصر الكيميائية التي تحتاج لها الكائنات الحيَّة؛ فهو عنصر أساسي يتواجد في كل كائن حي؛ إذ إنه مكون أساسي لمُركَّب "دي إن إيه"، كما إنه يؤدي دورًا مُهمًا في غلاف خلايا الكائنات الحيَّة، ويعد عنصرًا أساسيًا في الأسمدة، وأدى دورًا بارزًا في الثورة الزراعية، لكنه يتواجد في الطبيعة مرتبطًا بعنصر الأوكسجين، ولا يتواجد على شكل عنصر مُفرَد، كما هو الحال في هذه القنابل المدمرة، ومن هنا فلم يتم الكشف عنه إلا في القرن السابع عشر في قصة عجيبة من قصص تاريخ العلوم ، فلقد لعبت الصدفة دورًا مُهمًا في ذلك؛ ففي عام 1669 راودت رجل يدعى "براندت" وذلك في أثناء تفكيره للحصول على الذهب، فكرة مجنونة، مفادها أنه قد يتمكن من الحصول على الذهب من البول، وذلك لأنَّ لون البول أصفر كالذهب! فما كان منه إلّا أن قام بغلي كميات كبيرة من البول ونتج عن هذا الغليان مادة حمراء كثيفة وسائلة وبقايا مواد سوداء صلبة، فقام بخلط الإثنين معًا وتسخينهما مرة أخرى، ونتج عن هذا الخلط والتسخين مادة شمعية تفوح منها رائحة شبيهة برائحة الثوم وتوهُّج بلون قرمزي، لكن المهم في الأمر أن المادة كانت شديدة الاشتعال وينتج عند احتراقها ألق أبيض اللون، وهو ما حدا بـ"براندت" إطلاق اسم الفوسفور على هذه المادة الجديدة.
وكانت هي المرة الأولى التي يتم فيها إنتاج عنصر الفوسفور الأبيض دون أن يكون مرتبطًا بالأوكسجين، وبعدما فطن الإنسان إلى بعض خواص هذا العنصر الذي استخرجه من بوله، تم استخدامه في الحروب بشكل متكرر وخاصة في الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ ففي هذه القنابل يتم تخزين الفسفور بعيدا عن الأوكسجين، وعندما يُطلق الفسفور في الهواء ونظرًا لتواجد الأوكسجين في الهواء، فإنه يتفاعل مع الفسفور وبشدة، ويولد هذا التفاعل حرارة كبيرة للغاية مولدًا لهبًا أصفر اللون ودخانًا كثيفًا، ولا يتوقف التفاعل مُطلقًا، الّا إذا نفدت مادة الفسفور؛ لأن كميات الأوكسجين في الهواء كبيرة، ومما يزيد من السوء أن الأوكسجين يتواجد في الماء أيضًا ولذا فعندما يتعرض المصاب إلى الاحتراق بالفسفور، فإن تعريضه للماء يزيد من شدة الاشتعال، كما إن الفسفور مادة تذوب في الدهون بسهولة ويسر، لذا فيمكنه النفاذ من جلد الإنسان إلى أعضائه الداخلية، مسببًا حروقًا كيميائية مؤلمة، فهو لا يقتصر على حرق الجلد؛ بل ينفذ إلى الأعضاء الداخلية، ولذا فإن التعذيب الذي يتعرض له المصاب لا يُطاق ولا يحتمل، فكيف بالأطفال والشيوخ والعجزة؟
ومن هنا، فإن الإسلام وجّه أتباعه إلى العلم النافع والذي يجلب الخير والنفع للإنسان، وحذّر من استغلال العلم في إنتاج اختراعات تحوله إلى وحش كاسر، فكل علم لكي يكون ذا قيمة في الإسلام، فلا بُد أن يكون نافعًا ومفيدًا؛ سواءً كان في الأمور الدينية أو في غيرها.
يقول المفكر الإسلامي الكبير مرتضى مطهري "كل علم ينفع المسلمين وشؤونهم ولازم لهم، يعتبر من العلوم الدينية، فلو أخلص امرؤ نيته لخدمة الإسلام والمسلمين وتعلم علمًا لشمله الثواب والأجر اللذين قيلا لتحصيل العلم، ولكن ممن ينطبق عليهم الحديث (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)".
المعرفة العلمية تمنح الإنسان قدرات جديدة لم يكن يمتلكها فيما مضى، لكن العلم لا يُحدد طرق الاستفادة من هذه المعرفة العلمية؛ فذلك يرجع إلى الإنسان والى القيم والمبادئ التي تحكمه، فكما أن الله تعالى منح الإنسان القدرة على عمل الخير والشر، وعلى الإنسان أن يختار بينهما، فان الله تعالى وهب له عقلًا، وهذا العقل ومن خلال المعرفة العلمية التي توصل لها وسّع من هذه القدرات، فأصبح يملك قدرات هائلة يمكنه الاستفادة منها في أعمال تجلب الخير والنفع للبشرية ويمكنه بالمقابل القيام بأبشع الجرائم وإبادة البشرية؛ بل وتدمير كرتنا الأرضية برمتها.
لذلك لا يُنعت العلم بالإجرام، ولا يُلام على ما لحق من ضرر بالبشرية؛ بل المُجرم هو ذلك الإنسان الذي استخدم العلم لتعذيب وقتل أخيه الإنسان.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس