المنظومة الأُسرية

 

سلطان بن ناصر القاسمي

في نسيج الحياة الاجتماعية، تتوازن العلاقات وتتشابك الأدوار لتشكل ما يُعرف بالنظام الأُسري، وهو أحد أهم أسس بناء المجتمعات وترسيخ هويتها الثقافية. إنها نظرة متشعبة إلى ترتيب الأسرة، تتجلى فيها أهمية كل فرد ودوره المحوري في صياغة الواقع وتوجيه المستقبل.

وفي هذا السياق، تتفرد الأسرة بأبعادها المتعددة والتي تجسدت في أسس تنظيمية تعكس تركيبة اجتماعية مُعقدة. فمنذ الأزل وحتى يومنا هذا، شكلت السلطة الأبوية خيوط الحب والاحترام والتوجيه، محملة بالتقاليد العريقة والمبادئ الدينية، لتمثل مرجعية راسخة في مسار الحياة الأسرية. كما إن السلطة الأبوية ترسخت كمفهوم له دوره الفاعل في تشكيل الهوية الأسرية وتوجيه المسار الحضاري. إذ تجسدت في شخصية الأب، الرمز الأول في الأسرة، الذي يحمل مسؤولية بناء الأسرة وحمايتها، بتوجيهاته الحكيمة وحنانه الأبدي.

لكن هذا النظام المعترف به تاريخيًا، لم يعد محصورًا في إطاره التقليدي، بل شهد تحولات عميقة تجاه مساواة الفرص وتوزيع الأدوار بين الجنسين. إنه تطور ليكون مجالًا للتفاعل والتبادل البناء؛ حيث تشارك الزوجة بقوة في بناء الأسرة، وتعزز دورها كشريك أساسي في تحقيق الاستقرار والرفاهية.

‎ويمكن تعريف النظام الأبوي على أنه تنظيم اجتماعي يتميز بسيادة الذكر الرئيس (الأب) وتبعية النساء والذريّة له بما فيه التبعية القانونية تعمل على تفسير وتبرير هذه الهيمنة وتنسبها إلى اختلافات طبيعية متأصلة بين الرجل والمرأة. كما يميل علماء الاجتماع إلى رؤية النظام الأبوي على أنه نتاج اجتماعي وليس نتيجة للاختلافات الفطرية بين الجنسين ويركزون الانتباه على الطريقة التي تؤثر بها أدوار الجنسين في المجتمع على فروق القوة بين الرجال والنساء.

‎وتاريخيًا.. تجلى النظام الأبوي في التنظيم الاجتماعي والقانوني والسياسي والديني والاقتصادي لمجموعة من الثقافات المختلفة.

 وبما أن هذا الموضوع يتحدث عن السلطة الأبوية فلابد أن نوضح مكونات الأسرة أولاً وهي كالآتي:

  1. الأب (الزوج) والذي يمثل الركيزة الأساسية في بناء الأسرة من خلال الارتباط بالشريكة المناسبة، التي تُساعده في العديد من الجوانب الحياتية. يبدأ دور الزوج بتقديم الدعم المالي والمعنوي للأسرة، وتوفير احتياجاتها الأساسية، بما في ذلك الرعاية والحماية.

كما يتحمل الزوج مسؤولية توجيه وإرشاد أفراد الأسرة لتجنب المشاكل والمصاعب في الحياة، ويتعين عليه أيضًا احترام الزوجة وتقديم الدعم لها بجميع الوسائل الممكنة. على الرغم من أن هناك اتجاهًا اجتماعيًا نحو المشاركة المتساوية بين الزوجين في القرارات الأسرية، إلا أن كل منهما يتحمل مسؤوليات فريدة لا يمكن للآخر تحملها.

إضافة إلى ذلك، يتعين على الأب أداء دور مهم في توجيه أبنائه، بدءًا من الرعاية الطفولية إلى الإرشاد في مراحل الشباب والتعليم، وغرس القيم الإنسانية والدينية فيهم. واختيار الشريك المناسب للحياة، خطوةٌ مهمة يجب أن يُقدم عليها الأب نصائحه وتوجيهاته. تتجلى أهمية القيادة الأبوية كعنصر أساسي في تنظيم الحياة الأسرية، حيث يمثل الأب الشكل الرئيسي للسلطة في الأسرة. ينبغي للأب أن يكون حكيمًا في توجيهاته وأساليبه، وأن يحافظ على التواصل المفتوح مع أفراد الأسرة، معتمدًا على الحوار وتجنب العنف والتحقير، حيث إنها الطريقة الأكثر فعالية لتحقيق الانسجام والتفاهم داخل الأسرة، وتجنب الآثار السلبية التي قد تنعكس على أفرادها في المستقبل.

  1. الزوجة (الأم)؛ وهي الركن الأساسي في بناء الأسرة؛ حيث تردي بأدوار متعددة تشمل الرعاية السليمة للأبناء وتربيتهم على قيم الاحترام والتقدير، وتوجيههم بتعاليم الدين والعادات والتقاليد، مما يمثل ركنًا أساسيًا لتكوين شخصياتهم. وتسعى أيضًا لتوفير الراحة للزوج في المنزل وتلبية احتياجاته بكل ود واحترام، وتسانده في قيادة الأسرة وتحمل مسؤولياته في غيابه، مع الحفاظ على أمانة أسرته. بالإضافة إلى ذلك، تهتم بتعليم الأبناء وتشجيعهم في دراستهم ومتابعتهم باستمرار، وتحثهم على تطوير قدراتهم وتحقيق أهدافهم. كما تعمل أيضا على توفير بيئة رفاهية للأسرة من خلال الابتكار والاستمتاع بالحياة، مع مشاركة جميع أفراد الأسرة في هذه العملية لتحقيق السعادة والارتياح.
  2. الأبناء؛ وهُم الركيزة الثالثة في العملية التربوية داخل الأسرة؛ حيث يمارسون دورًا أساسيًا في تحقيق الجو الأسري الصحي، عبر ترجمة المبادئ التي يعمل عليها الوالدين- سواء الأب أو الأم- في إيجاد بيئة تربوية مثالية. ويتمثل دور الأبناء في طاعة واحترام الوالدين، وبذل الجهود لكسب رضاهم وموافقتهم، من خلال الاستماع لتوجيهاتهم والعمل بما يقتضيه الأمر واحترام آرائهم، وفقًا لقوله تعالى: "إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا". كما ينبغي عليهم تقديم العون والدعم للوالدين، مما يظهر حبهما وطاعتهما، وفي هذا يتجلى معنى الألفة الأسرية والانسجام في التربية.

وفي نهاية المطاف.. يتجلى أمامنا النظام الأسري كنسيج اجتماعي مترابط يحمل في طياته توازنًا حساسًا بين السلطة والمسؤولية، بين القوة والحنان، وبين الاحترام المتبادل والتفاهم العميق. فهو نظام ينبغي له أن يعكس الشراكة والتفاعل الإيجابي بين أفراد الأسرة، ويعزز النمو الشخصي والاجتماعي للأبناء، ويمهد الطريق نحو بناء مجتمع أكثر تسامحًا وتوازنًا. إنه نظام يحمل في جوانبه تحديات وتعقيدات، لكنه في الوقت ذاته يحمل بوصلة توجيه تعزز الروابط الأسرية وتسهم في بناء أساس قوي لمستقبل أفضل.

تعليق عبر الفيس بوك