ليس دفاعًا عن إيران.. بل حبًا في فلسطين!

 

د. هيثم مزاحم **

 

أتابعُ السياسات الإيرانية منذ كنت فتى يافعًا في أوائل ثمانينات القرن العشرين، وقد بدأت الكتابة في الشؤون الإيرانية منذ أوائل التسعينيات، وبخاصة الملف النووي الإيراني والعلاقات الأميركية الإيرانية والتهديدات الإسرائيلية للجمهورية الإسلامية، فضلًا عن السياسات الإيرانية الداخلية والخارجية وخصوصًا موقف إيران من القضية الفلسطينية ودعمها لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين وصولًا إلى نشوء محور المقاومة.

قد نختلف مع نظام الجمهورية الإسلامية الإيرنية بشأن آيديولوجيتها وقد نعترض على بعض سياساتها الداخلية والخارجية، لكن من الظلم التشكيك بموقف إيران من القضية الفلسطينية ونكران تضحياتها العظيمة من أجل فلسطين ودعمها للمقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها، وخوضها صراعًا علنيًا وسريًا مع الكيان الصهيوني وحاميته الولايات المتحدة الأميركية، بسبب هذا الموقف وهذا الدعم.

ونظرًا لأهمية القضية الفلسطينية كقضية مركزية في حياة الأمة الإسلامية وكون القدس المحتلة تمثل رمزًا لهذه القضية، لما تضمه من مقدسات إسلامية؛ باعتبار المسجد الأقصى هو القبلة الأولى للمسلمين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، اختار الإمام الخميني الراحل، مؤسس الجمهورية الإسلامية، آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك يومًا عالميًا للقدس، في محاولة لتعبئة وحشد وتوحيد المسلمين، بهدف تحرير فلسطين المحتلة. يقول الخميني: "يوم القدس، ليس فقط يومًا لفلسطين، انه يوم الإسلام، يوم يجب أن تتحد فيه مصائر الشعوب المستضعفة، يوم يجب فيه أن تعلن الشعوب المستضعفة عن وجودها في مقابل المستكبرين.. يوم القدس، يوم حياة الإسلام، .. يوم امتياز الحق عن الباطل، يوم انفصال الحق عن الباطل".

وقد تبّنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها خطابًا دينيًا وسياسيًا جذريًا، دعا إلى دعم حركات التحرر في العالم كله، حيث رفعت إيران شعارات ثورية جديدة ومصطلحات مثل "المستضعفون في مواجهة الاستكبار العالمي"، و"أميركا الشيطان الأكبر"، و"إسرائيل غدة سرطانية يجب إزالتها"، و”الموت لإسرائيل، الموت لأميركا"، الخ..

وكان من أبرز مبادئ الثورة الإسلامية على مستوى السياسة الخارجية، نُصرة الشعوب المستضعفة. وتشير مقدمة الدستور الإيراني إلى أن الهدف من إقامة الحكومة الإسلامية، هو هداية الإنسان للسير نحو النظام الإلهي، كي تتواجد الظروف المناسبة لظهور المواهب وتفتحها في سبيل نمو الأخلاق الإلهية في الإنسان، وذلك بالتعاون المشترك بين جميع أفراد المجتمع في مسيرة التطور الاجتماعي، وبناء عليه يقوم الدستور بإعداد الظروف اللازمة كي "تتحقق حكومة المستضعفين في الأرض"، طبقًا للآية القرآنية "ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين" (القصص: 5).

وتنص المادة الثالثة من الدستور الإيراني على "أن تنظيم السياسة الخارجية للبلاد، يقوم على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم"، بينما تقول المادة 154 إن جمهورية إيران الإسلامية تعتبر "سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله، قضيةً مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل، حقًا لجميع الناس في جميع أرجاء العالم، وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بحماية النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطةٍ من العالم. وفي الوقت نفسه، لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى".

ولعل هاتين المادتين تؤسسان لعقيدة النظام الإسلامي الإيراني في دعم الحركات التحررية في العالم، من أجل ما يعتبره هذا النظام غاية سامية تتمثل في سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله وتحقيق الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل في العالم كله.

أطلتُ الاقتباس لإظهار أن فكرة دعم المستضعفين وحركات التحرر جزء من الدستور والعقيدة الإيرانيين، بينما كانت قضية فلسطين حاضرة منذ اليوم الأول لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، حيث حوّلت إيران سفارة الكيان الإسرائيلي في طهران إلى سفارة لفلسطين تسلّمتها منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت أنذاك بقيادة الشهيد الراحل ياسر عرفات، الذي كان من أوائل زوار إيران الثورة والتقى بالإمام الخميني مرات عدة.

وليس خافيًا على أحد دور إيران في تأسيس حزب الله بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ودعمها له بالتدريب والسلاح والمال حتى تمكن من هزيمة قوات الاحتلال الإسرائيلي التي اضطرت إلى الفرار من جنوب لبنان عام 2000، وكذلك استمرار دعمها السياسي والمالي والعسكري والإعلامي حتى اليوم، مرورًا بالعدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو- أغسطس 2006.

والأمر نفسه تكرر مع دعم إيران لحركات المقاومة الفلسطينية، وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بالمال والسلاح والموقف خلال أكثر من ثلاثة عقود،  وصولًا إلى هجوم المقاومة في طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، وما تلاه من عدوان صهيوني وحشي مستمر على قطاع غزة، ومجازر إبادة يومية بحق الشعب الفلسطيني.

وغني عن القول إنَّ مشكلة إيران مع الولايات المتحدة والغرب ليس مشروعها النووي السلمي، ولكن موقفها من الكيان الصهيوني الغاصب، ودعمها لحركات المقاومة في المنطقة. كما إن المشروع النووي الإيراني قد بدأ في أوائل سبعينيات القرن الماضي مع الشاه محمد رضا بهلوي وبرضى أميركي، ومشاركة ألمانية وفرنسية. ولو كان هذا المشروع لا تراه أميركا يشكل تهديدًا لإسرائيل لما وضعت أمامه العراقيل منذ ثلاثة عقود، مرة بعقوبات دولية وأخرى بعقوبات أميركية وغربية، وصولًا إلى تهديدات إسرائيلية وأميركية بتدمير المنشآت النووية الإيرانية.

وقد قدمت إيران الكثير من الشهداء في هذا الصراع مع الكيان وداعمته أميركا، بدءًا بالعلماء النوويين الإيرانيين، وصولًا إلى الاغتيال الأميركي لقائد فيلق القدس في حرس الثورة الإيراني اللواء قاسم سليماني في بغداد في بداية العام 2020، واغتيال إسرائيل عددًا من القادة والمستشارين والكوادر العسكريين الإيرانيين في سوريا والعراق، وأخيرًا تدميرها القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال 8 من القادة الإيرانيين بينهم قائد فيلق القدس لسوريا ولبنان العميد محمد رضا زاهدي، ومساعده العميد محمد هادي حاج رحيمي في الأول من أبريل الجاري.

ولا شك أن إيران كانت تعتمد ما أسمته "الصبر الاستراتيجي" في صراعها مع أميركا وإسرائيل، بحيث تحاشت المواجهة المباشرة مع الأولى بسبب التفوق العسكري الأميركي، وهي القوة العظمى الأكبر على مر تاريخ البشرية، بينما اعتمت الحرب بالوكالة مع الكيان الصهيوني عبر دعمها وتسليحها لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا واليمن، وذلك لسببين, السبب الأول هو عدم وجود حدود لإيران مع فلسطين المحتلة يجعها دولة طوق ومواجهة على غرار لبنان وسوريا ومصر والأردن، والسبب الثاني هو معرفة القيادة الإيرانية بأن شن حرب مباشرة على إسرائيل يعني الدخول في مواجهة مع أميركا والغرب. وقد ظهر ذلك جليًا في الدعم الأميركي والغربي منقطع النظير للكيان في عدوانه على قطاع غزة بعد هجوم طوفان الأقصى وكذلك في مشاركة هذا التحالف الغربي في صد المسيّرات والصواريخ الإيرانية التي أطقت على بعض قواعد جيش الاحتلال الإسرائيلي ومنشآته ومطاراته في الرابع عشر من أبريل الجاري.

لكن إسرائيل قد فسّرت هذا الصبر الإيراني- برغم سقوط العديد من الشهداء من قادة ومستشارين- بأنه ضعف وعجز إيرانيان، فتمادت في اعتداءاتها وصولًا إلى قصفها للقنصلية الإيرانية في دمشق، في انتهاك للأعراف الدبلوماسية وللسيادة السورية والإيرانية، فكان لا بد من الرد الإيراني الأخير.

لقد أرادت طهران بذلك استعادة توازن الردع الذي فقدته بصبرها على الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية داخل إيران وسوريا، وتوجيه رسالة لحكومة المجرم بنيامين نتنياهو وإدارة جو بايدن بأن عصر الصبر الاستراتيجي قد ولّى إلى غير رجعة، وهي أرسلت رسائل متعددة إلى واشنطن بأنها سترد ردًا أقوى وأسرع وأوسع على أي عدوان إسرائيلي جديد، يطال أراضيها أو سفاراتها أو قياداتها ومراكزها في الداخل والخارج.

وقد أظهر الهجوم الإيراني عن تفعيل لحلف الناتو العربي أو الشرق أوسطي في مشاركته في صد الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، وإسقاط معظمها قبل وصولها إلى الكيان. هو نجاح تكتيكي لكنه فشل استراتيجي في إسقاط الصواريخ الدقيقة التي أصابت المطارين اللذين انطقت منهما المقاتلات الإسرائيلية التي اعتدت على القنصلية الإيرانية في دمشق. وكان الهدف من كثرة المسيّرات والصواريخ الباليستية هو إغراق المنظومة الدفاعية الإسرائيلية كالقبة الحديدية وباتريوت لتمرير الصواريخ المستهدفة للقواعد العسكرية.

في المقابل، تهدد حكومة نتنياهو برد وشيك على الهجوم الإيراني، وهي تهدف من ذلك أحد أمرين، إما رغبة نتنياهو توسيع نطاق الحرب وتوريط أميركا في مواحهة مباشرة مع إيران، أو قبول نتنياهو بتأجيل الرد في مقابل منح واشنطن له غطاء واسعًا لاستمرار عدوانه على قطاع غزة ومواصلة مدّه بالسلاح والمال والدعم السياسي والدبلوماسي. في الحالتين، سيستمر العدوان ولا أحد يضمن عدم انزلاقه إلى حرب واسعة ومفتوحة في المنطقة.

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في بيروت

تعليق عبر الفيس بوك