واقع العُمَّال الفلسطينيين في الكيان المحتل

 

لبيب طه **

 

يحتاج الإنسان لتأمين قوته وقوت عياله، يسلك في ذلك سبلاً شتى، يعمل لدى أبناء قومه أو خارج وطنه، أما أن يعمل لدى أعدائه الذين يسعون لاستئصاله من كافة النواحي، فهذه حالة نادرة قد لا يوجد نظير لها إلا في الحالة الفلسطينية.

صحيح أن العبيد عملوا في الولايات المتحدة لدى مشتريهم، لكن كان ذلك كجزء من العبودية وليس العمل بموجب ما يفترض أنه عمل تقتضيه مصلحة السوق والعرض والطلب، وتنظمه قوانين العمل المحلية والعالمية، ويعطي العامل ورب العمل حقاً ويأخذ حقاً بالمقابل.

في فلسطين أنت تعمل لدى المُحتلين لأنهم لم يتركوا لك فرصة جيدة للعمل في نطاق اقتصاد وطنك، صادروا الأرض وما تحتها من مياه وثروات، وضيقوا عليك الاستيراد والتصدير، وسمحوا لك بصناعة تكميلية لصناعتهم، وزراعة تُغطي نقص محاصيلهم، وعملا يأنفه الإسرائيليون، واتفاقا اقتصاديا حمل اسم باريس يميل لمصلحتهم بالمطلق.

في فلسطين، أنت تعمل في مستوطنة قد تكون أرضاً لجدك هُجّر منها قبل عقود، وقد تعمل لدى مقاول يعمل جنديًا يضطهدك على الحاجز أو قتل قريبك أو جارك، وقد تعمل لدى ضابط مخابرات سابق داهم بيتك أو بلدتك واعتقلك وعذبك في التحقيق أو في السجن.

يتضح إذاً أن العمل لدى المحتلين يولد في النفس مشاعر متناقضة، فالعامل يحتاج دخلاً معقولاً يسد به رمقه، وبالمقابل هو يعمل لدى عدو يمعن في الإجرام وترتفع لديه مستويات الفاشية والعنصرية إلى مستويات كبيرة.

تحاول هذه الورقة إلقاء الضوء على واقع العمل في الكيان الإسرائيلي للعمال الفلسطينيين عبر عقود، وتقدير مستقبل العمل هناك على المدى القريب والبعيد.

العمالة في إسرائيل منذ عام 1967

ما أن استولى الكيان الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى بدأت بهدم كل مكونات الاقتصاد الفلسطيني، وتحويله إلى اقتصاد تابع لاقتصاد دولة الاحتلال.

فتحت إسرائيل باب العمل لديها بعد حرب 1967، ففي عام 1970، أصدر القائد العسكري «تصريحا عاما» يسمح للعمال الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة بدخول الكيان الإسرائيلي للعمل. توجه غالبية العما الفلسطينيين للعمل في أراضيهم المحتلة عام 1948، بحكم الحاجة أو الضرورة أو انعدام الخيارات.

تسارعت أعداد العمال الفلسطينيين بعد حرب 1967، فقد ارتفعت الأعداد من 20 ألفا عام 1970 إلى 50 ألفا عام 1972، إلى 75 ألفا عام 1982 .

في دراسة ليلى فرسخ، بعنوان «العمل الفلسطيني في إسرائيل 1967-1997» تقول أن عدد عمال الضفة وغزة بلغ 116 ألف عام 1992، ليعود وينخفض إلى 36 ألف عام 1996، كان معظمهم من الضفة الغربية بسبب القيود على العمال .

عاد عدد العمال الفلسطينيين إلى الارتفاع فيما بعد، حيث ارتفع عددهم من 78 ألفا بنهاية العام 2010، إلى 173.4 ألفا في الربع الأول من العام 2022.

في تطور لافت ذكر تقرير ماس أن القرارات الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة لم تقتصر على زيادة حصص تصاريح العمل الممنوحة للفلسطينيين، بل شملت استحداث حصص في قطاعات لم تحظ بأي حصة في السابق، مثل قطاع التكنولوجيا المتقدمة، القطاع الصحي (ممرضون وأطباء)، كما شملت ابتداء من 2021 السماح لعمال غزة بالدخول الى الكيان الإسرائيلي للعمل وفق حصة أولية وصلت إلى حوالي 20 ألف عامل موزعة على قطاعات: البناء والزراعة والخدمات، وتغييرات في نظام إصدار التصاريح، وآليات الدفع للعمال .

العمالة بعد السابع من أكتوبر 2023

يتضح مما سبق أن طفرة حصلت في مجال عمل الفلسطينيين في إسرائيل في العقد الأخير -رغم تذبذب الأرقام والنسب تبعا للمزاج الأمني والسياسي الإسرائيلي-وذلك كما عكستها الأرقام السابقة حتى نشوب الحرب الأخيرة التي بدأت في السابع من أكتوبر الماضي.

ما أن نشبت الحرب حتى قامت إسرائيل باعتقال عمال غزة عدة أسابيع، مارست ضدهم التعذيب والإهانة، فقد نقل موقع الجزيرة تقريرا تحدث فيه عما تعرض له آلاف العمال الفلسطينيين من إساءة وإهانة وتعذيب لنحو أربعة أسابيع في إسرائيل، بعد اعتقالهم إثر الهجوم الذي قادته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول . وبعد الإفراج عنهم ألقت بهم إلى غزة التي تتعرض لحرب إبادة بكل ما للكلمة من معنى.

تعرضت الحياة الاقتصادية للفلسطينيين والإسرائيليين للشلل بفعل الحرب، وجلس العمال الفلسطينيون في بيوتهم دون عمل، وحتى أن مستحقاتهم لم يدفعها لهم أرباب العمل الإسرائيليون بحجة أولوياتهم الاقتصادية في خدمة اقتصاد الحرب.

ومنذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تمت الموافقة على دخول خمسة آلاف عامل فلسطيني فقط تم تصنيفهم على أنهم أساسيون من أصل مئة ألف عامل يحملون تأشيرات عمل في إسرائيل .

ولم تتخذ الحكومة الإسرائيلية قرارا بإعادة العمال إلى عملهم في جلستها يوم العاشر من ديسمبر 2023، بل تعالت أصوات عنصرية ومعادية للعرب في جلسة الحكومة تزعمها سموتريش وبن غفير؛ فقد قالت وسائل إعلام إسرائيلية، إن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، دعا حكومة الحرب إلى عدم السماح للعمال الفلسطينيين بدخول إسرائيل من الضفة الغربية للعمل في الوقت الذي تبحث فيه الحكومة هذا الأمر . كما دار الحديث عن استجلاب عمال من الهند ليحلوا محل العمال الفلسطينيين.

آفاق عودة العمال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل

بالعودة إلى التذبذب في أعداد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، يتضح أن الوضع يعتمد على العامل الأمني لدى الجانب الإسرائيلي، وذلك بالنظر إلى انخفاض أعداد العمال الفلسطينيين بفعل الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، ثم عودة عدد العمال للارتفاع بعد ذلك، فهل يمكن أخذ ذلك كمعيار وتوقع عودة العمال وزيادتهم بعد انتهاء الحرب؟

يبدو أن الحال الذي تلا الانتفاضتين لا ينطبق على الوضع الحالي؛ وبالتالي أظن أن نافذة عودة العمال تبدو ضيقة بالنظر إلى عدة عوامل؛ فما تلا الانتفاضة الأولى والثانية من تداعيات لا يقاس بالتداعيات العسكرية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية على كيان الاحتلال.

الشعور بالأمن لدى الإسرائيليين تضعضع كثيرا، وما جرته صواريخ المقاومة على كامل التجمعات الإسرائيلية من الشمال إلى الجنوب جعلهم يُدركون هشاشة وضعهم الأمني بفعل الفلسطينيين من خلف الجدار، فما بالك إن دخل الفلسطينيون إلى المدن الإسرائيلية للعمل؟

ثم أن الشعور بالحقد والنقمة على الفلسطينيين ككل، لا يسمح بعودة الوضع إلى سابق عهده، فالحديث عن السلام والتطبيع والتعايش سقط، وأظنه سقط إلى الأبد.

كما أن تنامي مشاعر العنصرية والفاشية وكراهية العرب تزداد لدى مجتمع المستوطنين، والتعامل مع أشخاص مكروهين صعب على النفس في ظل نزعة التعالي والغرور التي يتمتع بها الإسرائيليون.

مشاعر الكراهية ليست وقفا على الإسرائيليين، فالفلسطينيون يرون إخوتهم يتعرضون لفظاعات وجرائم في غزة وفي الضفة الغربية أيضا، ولا يمكن لمشاعرهم أن تكون محايدة، وما يخشاه الإسرائيليون هو التعبير عن هذه المشاعر بفعل معادي.

ثم إنَّ الحرب مع إسرائيل لا تزال مُستعرة، ونهاياتها مفتوحة، ولا يعلم بعد نهاية الحرب كيف ستكون خارطة المنطقة والإقليم؛ لننتظر نهاية الحرب ولكل حادثة حديث.

لا يوجد حل سحري أو عاجل لعشرات آلاف العمال ممن فقدوا عملهم في الداخل، لكن التوجه للعمل الإنتاجي من زراعي وصناعي وخدماتي في فلسطين، وتقليل الميل من النزعة الاستهلاكية، والعمل على التكافل الاجتماعي والاقتصادي يمكن أن يُخفف من هذه الضائقة.

** صحفي وباحث فلسطيني مقيم في رام الله

** يُنشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية في بيروت

تعليق عبر الفيس بوك