مِصْرِيُّونَ فِي سَلْطَنَةِ عُمَانَ (2)

 

الشيخ محمود الشربيني.. الخطيب

إمام وخطيب مسجد أبوبكر الصديق بمسقط "الوطية"

محمد السعداوي

(إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلْ، فَقَالَ: إِنِّي أَحَبَّ فُلَانًا فَأُحَبَّبْهُ، فَأَحَبُّهُ جِبْرِيلْ، ثُمَّ يُنَادِي فِي اَلسَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ اَلسَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ اَلْقَبُولُ فِي اَلْأَرْضِ ...)

الشيخ محمود العدل أحبه الله ووضع له القبول في الأرض، كان رحمة الله عليه بشوشًا سمحًا باسما، لين الحديث محبا للجميع، كان من أئمة المساجد، الذين كتبوا القرآن في صدورهم، وعكفوا عليه ترديدًا وتكرارًا، حتى تعطرت به الآذان، ورتلوه حتى رسخ في الأذهان، هو من الذين خالط كلام ربهم أنفاسهم، وصارت ألفاظه ومعانيه ذرات من تكوينهم، ألفتها أسماعهم، وحفظتها قلوبهم، وعشقتها أرواحهم.

صورة داخل المقال.jpg
 

لم يكن يؤدي عمله طمعًا في راتب يتقاضاه، أو منصب أو جاه، كان عمله خالصًا إلى وجه الله، فأحبه الله وأرضاه، وكذلك نحن أحببناه وارتبطنا به، شيخًا وإمامًا وأبًا وحكمًا وقاضيًا، اعتدنا أن نذهب للصلاة في مسجد أبي بكر الصديق بالوطية في محافظة مسقط، وكان أغلبنا يسكن على مسافات بعيدة من هذا المسجد، كنا نتخطى عددا من المساجد في طريقنا، قاصدين مسجده هذا، لما نشعر به من فيوض روحانية وتلاوة قرآنية قلما نجدها عند غيره، وخاصة في شهر رمضان المبارك، لسنوات طوال ارتبطنا بشيخنا الجليل عمانيون ومصريون وغيرهم من الجاليات، والسبب تلك التجليات والفيوضات الربانية التي نشعر بها ونلمسها في تلاوته وخشوعه.

كتبت د. يسرية آل جميل في جريدة عمان "أحببناه جميعًا أبناء منطقة الوطية لم نعتبره يومًا مجرد إمام لمسجد الحي كنَّا نراه في المنزل بصورة مستمرة حتى حسبناه أحد أفراد أُسرِنا جميعًا، كان أول الوجوه الطيبة وأول من يُعايد بيوت المنطقة عقب صلاة العيد إذا حَلّ بمكانٍ أدخل فيه البهجة والسرور، في الفرح أول المهنئين في الحزن أول المواسين، رؤوفًا رحيمًا حنونا ًكان لنا أبًا عظيمًا وإمامًا أعظم مما تتخيلون، رجلَ علمٍ ودينْ لم نلجأ إليه يومًا إلا وقد عدنا من عنده قريري العين شَرِيحَي الصدر مطمئني القلب".

أذكر أن كثيرًا منَّا كان يلجأ إليه طالبًا المشورة ليس فقط في أمر من أمور الدين، ولكنا كُنا نقصده للنصح في كثير من أمورنا الأسرية وعلاقاتنا الزوجية، ونطلب منه النصح والمشورة فيما يتعلق بأمور أولادنا وأصدقائنا، وكان يبدي لنا النصح والإرشاد بقلب صاف وكلام جميل، وكثيرًا ما كان يزين حديثه بطرفة أو مزحة تخفف علينا مشاكل الحياة وهمومها، فنخرج من مجلسه منشرحي الصدور، مقبلين على الحياة ومتفائلين بالمستقبل.

وكانت كلماته دائمًا يرددها بلهجته المصرية الأصيلة (خليها على الله)  (اللي عند الله كسبانه).

أما فيما يتعلق بكونة حكمًا وقاضيًا، فقد لجأ اليه الكثير في خلافاتهم الاسرية والعائلية، فكان نعم الاب الناصح. وبفضل الله وفضله اقيمت بيوت كانت أنقاضًا، واستقامت أسر كانت معوجة، وإنتهت خلافات كثيرة بين يديه، وكان كلما إستعظم خلافا أو اشتدت خصومة، ندعوه ليصلح بين المتخاصمين، ولعلمي لا أعلم أنه تقاعس أو تردد كلما لجأ اليه أحدًا، حتى في لحظات تعبه أو مرضه أو أنشغاله، كذلك لا أعلم واقعة تصدى لها ولم تحل بفضل الله وبفضل سمحاته وعدله رحمة الله عليه.

شيخنا الجليل وُلِدَ في قرية ميت طاهر مركز منية النصر بمحافظة الدقهلية في دلتا مصر، في 4 أبريل 1947، وكان أصغر إخوته، وكان في طفولته كغيره من الأطفال يحب اللعب و الانطلاق، ومتميزًا بين أقرانه بالصفات الحميدة والأخلاق الحسنة، مما أكسبه محبة أهله والمحيطين به ولكن والده - رحمه الله-  كان حريصا على تحفيظه للقرآن الكريم في كتاب القرية حتى أتم حفظ القرآن الكريم عند عمر 11 عامًا.

وشاءت الأقدار أن يفقد البصر في عينه اليسرى منذ طفولته بسبب التراكوما، ولكن رغم ضعف بصره، أصر على إكمال دراسته الإعدادية والثانوية في المعهد الأزهري بدمياط لقلة المعاهد الأزهرية بالدقهلية في ذلك الوقت، وطوال فترة دراسته الثانوية كان يؤم الناس ويخطب في مساجد رأس البر.

ثم أكمل دراسته في الأزهر الشريف بالقاهرة في كلية أصول الدين وقام باختيار شعبة التفسير والحديث ليساعد زميلا كفيفاً له في المذاكرة، وقد دعا له وأثنى عليه عميد الكلية عند علمه بسبب اختياره لتلك الشعبه- وبحمد الله- تخرج حاصلاً على ليسانس أصول الدين شعبة تفسير وحديث سنة 1975 بتقدير جيد جدًا.

بعد تخرجه عمل ضمن رجال الدين في جهاز الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، بعد حرب السادس من أكتوبر 1973 والذين كانت مهمتهم تحفيز الجنود ودعمهم دينيًا ومعنويًا، ثم عمل مدرسًا في القاهرة في مدرستين وفي تلك الفترة كان يعمل أيضا في جامع الإمام الحسين بالقاهرة، ثم انتقل بعدها للعمل إمامًا وخطيبًا لجامع عمر مكرم، أشهر مساجد القاهرة؛ حيث تقام فيه أغلب الاحتفالات والمناسبات الدينية، ويفد إليه كبار رجال الدولة ومشايخها وعلمائها.

وعندما صدر قرار نقله لجامع السيدة نفيسة، كان في نفس الوقت أمامه عرضان للسفر الى سلطنة عمان وآخر الى الكويت، لكنه فضل واختار السفر الى سلطنة عمان لطيبة شعبها وما علمه فيهم من خصال حميدة وسير حسنة. أقام في ولاية صور بسلطنة عمان لمدة ثلاث سنوات من سنة 1979 إلى سنة 1983، ثم إنتقل إلى محافظة مسقط من سنة 1983 حتى سنة 2017؛ حيث عمل إمامًا وخطيبًا لجامع أبو بكر الصديق (كان يخطب الجمعة ويؤم المصليين في الصلوات الخمسة وصلاة الجمعة والتراويح والتسابيح والتهجد والأعياد ويعطي دروس دينية أسبوعية ويقوم بتحفيظ القرآن الكريم)، وكان مسجد أبو بكر الصديق شاهدًا على ما قدمه من علم ودروس وحلقات ذكر وتلاوة للقرآن الكريم.

واستمرت مسيرتة الغنية حوالى 38 عامًا، كانت مليئة بالعطاء زاخرة بالعلم والعمل، فلم يك إماما وواعظا فحسب بل قدم العديد من البرامج والمحاضرات الدينية في إلإذاعة والتليفزيون بسلطنة عمان، وكان محاضرًا متميزًا نلتف حوله في كثير من الحفلات بالمدرسة المصرية، ونادي الجالية، والعديد من المناسبات الوطنية والدينية، ولسماحته وعلمه كان يحضر مهنئا الإخوة المسيحيين بأعيادهم ومناسباتهم الدينية، وله في ذلك مواقف وأقوال متعددة في التسامح والعدل والمساواة وقبول الآخر المعارض أو المختلف ثقافيًا أو فكرياَ أو دين.

لم ينقطع عطاؤه رحمة الله عليه إلا بمرضه ثم وفاته رحمة الله عليه بالقاهرة متأثرا بمرض السرطان؛ حيث توفاه الله بتاريخ 9 سبتمبر 2017 ودفن بمسقط رأسة بمنية النصر محافظة الدقهلية، بجمهورية مصر العربية.

إن فضيلة الشيخ وأمثاله يكفيهم شرفًا أن الله خصهم بكلامه، واصطفاهم لحمل وحيه .نظر الله إلى قلوبهم فوجدها صافية نقية، فأودعها كلامه، وصب في تلافيفها وحيه، "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا"، فهم خاصة الخاصة، وخلاصة النخبة الذين يسمع الكون إلى أصواتهم، ويخشع الوجود لما يرتلون ويقرأون وتسري قشعريرة الرهبة في القلوب، وتطمئن النفس لحقائقه وترتاح الروح وتفرح بهم.

رحم الله شيخنا وعالمنا الجليل وجعل أعماله في ميزان حسناته.

تعليق عبر الفيس بوك