خوارق العادات من زاوية علمية! (2)

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

هناك بعض الأعمال التي قد يصنفها البعض بأنها خوارق للعادات وهي أعمال قد تكون غريبة وغير مألوفة، إلّا أنَّ العلم اليوم كشف عن حقيقتها وأوضح أنها ليست مخالفة للقانون العلمي؛ بل يمكن فهمها والتدريب عليها، فمثلًا القدرة على المشي على الجمار الحارقة دون أن تحترق قدما الإنسان، أمر قد نراه خارقٌ للعادة، ولكن اليوم كشف العلم عن إمكانية القيام به والتدريب عليه، كما إن ادخال السيف الى معدة الإنسان عبر فمه وتناول قطع من الزجاج المكسور وبلعه دون أن يسبب له آلاماً أو جروحاً في فمه أو في جهازه الهضمي هما أمران خارقان للعادة، ولكن يمكن القيام بهما والتدريب عليهما.

هكذا نجد أن هذا الصنف من خوارق العادات لا يعتبرها العلم اليوم خارقة للقوانين الطبيعية، وعموما فإن إحدى الوسائل التي يمكن استخدامها لمعرفة عما إذا كان العمل خارقاً للقوانين الطبيعية أم لا، هو سعة انتشار العمل، فعندما تظهر بعض الأعمال الخارقة للعادة في عدد من المجتمعات، فإن ذلك يعد مؤشراً جيداً ويقوّي من احتمال أن تكون الظاهرة غير منافية للقانون الطبيعي، ولذا فإن الملاحظ في الأعمال التي ذكرناها في هذا الصنف بأنها منسوبة لأفراد بل وتم التحقق من صدورها منهم في عددٍ كبيرٍ من المجتمعات.

وهناك صنف ثالث من خوارق العادات وردت في التاريخ البشري، ولكنها في الواقع ليست كذلك، فهي نتيجة للجهل وربما قلة الاطلاع، وسيطرت عقلية السحر وخوارق العادات على عقلية الإنسان آنذاك، ولذا عجز الإنسان سابقا عن تفسيرها، أما اليوم فلا يمكن عدها من خوارق العادات أصلاً أو أنها خرقٌ للقانون الطبيعي، بل يمكننا تفسيرها  ضمن السنن الطبيعية والقوانين العلمية، فمثلا يروى في التاريخ الأوروبي، أن أحدهم استطاع أن يقوم بتصنيع مرهم عجيبٍ خارقٍ للعادة، فإذا أُصيب الإنسان بجرح بليغٍ بالسكين أو بأي آلة حادة، فلا حاجة لدهن موضع الجرح بل كل ما عليه القيام به هو دهن تلك الآلة الحادة التي سببت الجرح البليغ، بعدها سيلتئم جرحه البليغ!

إن الحادثة المذكورة تم سردها قبل اكتشاف الجراثيم، وسببت هرجا ومرجا آنذاك، واُعتبرت أمراً خارقاً للعادة، لكن اليوم وعند مراجعة التفسير المطروح، نجد أن بإمكاننا تفسير هذه الحادثة بصورة علمية، ودون الحاجة الى افتراض خصائص خارقة للعادة في هذا المرهم العجيب، فلقد اقترح صاحب هذا المرهم العجيب القيام بإجراءات أخرى تسبق عملية دهن المرهم للآلة الحادة المسببة للجرح، حيث كان يوصي بغسل قطعة قماش بماء ساخن، ومن ثم تجفيفها وتغطية الجرح البليغ بها أولاً ودون دهن موضع الجرح بالمرهم، ومن ثم القيام بدهن الآلة الحادة بالمرهم، وظن الناس في ذلك الوقت أن السر يكمن في مواصفات عجيبة وخاصة بذلك المرهم، ولكن اليوم وبعد اكتشاف الجراثيم والبكتريا علمنا بأن الأمر لا علاقة له بطريقة استخدام المرهم، انما المسألة مرتبطة بتسخين قطعة القماش تلك وتغطية الجرح بها، فبهذه العملية، كانت تحدث عملية تطهير لموضع الجرح من الجراثيم ويمنع ذلك من التهابه ويسرع في التئام الجرح وشفاء المصاب، لكن هذا التفسير الجديد لم يكن بالإمكان التفكير فيه في ذلك الحين، لأن مسألة التهاب الجروح بسبب البكتريا والجراثيم الموجودة في البيئة المحيطة بالجرح لم تكن معروفة آنذاك، ولذا عد ذلك المرهم العجيب مرهماً خارقاً للعادة، ولو أن أحدهم قام في ذلك الوقت بتسخين قطعة القماش وتجفيفها وتغطية موضع الجرح، لأكتشف أن الجرح التئم بشكل سريع ودون الحاجة الى وضع المرهم على تلك الآلة الحادة المسببة للجرح.

كما ورد في كتاب "القصص العجيبة" للسيد عبد الحسين دستغيب، قصة حدثت إبان الحرب العالمية الثانية، ومفاد القصة بأن السماء أمطرت سمكاً على أهل البحرين لتنقذهم من الهلاك، وعدها المؤلف أمراً خارقاً للعادة وكرامةً لأهل البحرين، لكننا اليوم نعرف أن هذه الظاهرة ليست خرقاً للقوانين الطبيعية، بل هي ظاهرةٌ طبيعةٌ غير معتادة ونادراً ما تحدث، إذ تم رصد الظاهرة لمرات محدودة، آخرها كان قبل مدة وجيزة وذلك في إحدى قرى أستراليا، وذلك في فبراير من العام المنصرم، كما تم رصد الظاهرة عام 2010 وتمت ملاحظتها أيضا عاميّ 2004 و1974 في أماكن مختلفة، والواقع أن السماء لا تمطر سمكاً وليس مصدر السمك هو الغيم كما ظن الكاتب، بل هي ظاهرةٌ تُلاحظ عندما تحدث أعاصير قوية  للغاية في البحار والمحيطات، ففي المناطق الساحلية،  تقوم هذه الأعاصير بحمل الأسماك والكائنات البحرية الأخرى الطافية وتلك التي تكون قرب المسطحات الماء لمسافات ممتدة، مما يسبب سقوطها مع الأمطار على اليابسة فيخيل للمرء وكأن السماء أمطرت سمكًا!

وربما تفيدنا هذه الحوادث المذكورة في كتب التاريخ في التمهل على حكم السابقين على أمور بأنها خارقة للعادة، وهذا لا يعني أننا لا نثق بما أوردوه من حوادث؛ بل علينا أن نعيد تفسيرها بما توصلنا إليه من علم ومعرفة، لأن علوم عصرهم ما كانت تسمح لهم بتقديم تفسير علمي طبيعي دون الحاجة للجوء إلى خوارق العادات، فعدد من الحوادث وحتى إلى وقت قريب، كانت تفسر بطريقة معينة واليوم ثبت لنا أنها ليست كذلك.

إنَّ علينا أن نضع في أذهاننا، أن النهضة العلمية العملاقة التي نعيشها اليوم في علوم الطبيعة، والفارق الكبير بينها وبين علوم أسلافنا، هي السبب وراء وصفهم لعدد من الحوادث بأنها خوارق للعادة، مع أنها ليست كذلك.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس