غزّة.. ما بين نظرة السّاسة وتعاطف الشعوب

 

علي بن سالم كفيتان

كُتب سيل من المقالات منذ السابع من أكتوبر 2023، بين تمجيد لما أقدمت عليه المُقاومة الفلسطينية من عمل جريء في ذلك التاريخ، وبين تحليل للموقف العالمي والعربي تجاه الأزمة التي لا زالت تشتعل إلى اليوم، ولم يستطع أحد أطفاءها، وأُتابع بكل جدية الأحداث المصاحبة لهذه الحرب عبر مختلف قنوات التلفزة وأوعية التواصل الاجتماعي، علِّي أجدُ إجابة للسؤال الذي حيَّرني حول الصمت المُطبق للأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي، وخذلان الشعوب للقضية، واكتفائهم بالتراشق بالتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي!

هل يرى قادة النظم السياسية ما لا تراه الشعوب؟ وما الأهوال التي يرونها عندما يفكرون في اتخاذ موقف حازم في قضية غزة؟ وأضعفها فتح المعابر وإدخال المساعدات للمحتاجين الذين باتوا بين مطرقة الصهاينة وأسوار الحدود العربية المُحصَّنة، وأعظمها إعلان الجهاد وفتح الحدود على مصراعيها، لمن أراد نصرة المستضعفين في غزة. وكلا الأمرين ممكن تنفيذه من وجهة نظر الشعوب المتعاطفة بصمتٍ مُخجلٍ مع أنظمتها، وهنا نعود لبداية الاستفسار لنبحث عن عذر للقادة، فربما يرون ما لا نرى، ويحاولون تجاوز الأزمة بأقل الخسائر من واقع النظرة الاقتصادية المتنامية، والحلم بازدهار المنطقة عبر تقليص التأجيج العاطفي وإطفاء شمعة الحماس العربي، وهذا على ما يبدو هو العنصر الأكثر فاعلية على ركاكة المواقف السياسية للأنظمة؛ فمعظم الدول المحيطة بالكيان الصهيوني تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية حادة، واحتقان داخلي غير مسبوق، بينما ظل الآخرون الأفضل حالًا يترنحون بين النجاة والغرق في أزمات الديون والبطالة، فبات الجميع مشغولًا بهَمِّهِ ولم يعد لديه متسع لجرح فلسطين الدامي منذ 75 عامًا، وهذه الفرضية تبرئ السّاسة من مبدأ التآمر على حماس وتصفية القضية الفلسطينية، وتحصرهم في إطار العقلانية التي تتطلب التهدئة وعدم نقل الأزمة خارج حدود فلسطين، بغض النظر عمّا يجري داخلها من جرائم وأهوال.

الركن الثاني يتمثل في الشعوب، التي لم تحرّك ساكنًا ولم تُغيِّر في الموقف، ولم تُشكِّل عنصر ضغط فاعل للقادة لدفعهم لاتخاذ قرارات أكثر جدية والبحث عن معالجات سريعة للمذابح التي يقترفها الصهاينة ليل نهار. وهنا لا بُد من التفريق بين جانبين؛ فالمُطبِّعون أو من يُقيمون علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني لم يستدعوا حتى السفير الصهيوني في تلك العواصم للتعبير عن غضبهم، وهو أضعف الإيمان، فلماذا لم يحدث ذلك؟ في الوقت الذي يَنظر فيه العقل الجمعي العربي لوقف كل العلاقات مع الكيان المغتصب وطرد السفراء من العواصم العربية، كورقة ضغط أشد، وهذا ما لم يحث كذلك. وفي مرحلة أعمق قطع النفط عن الدول الغربية الداعمة.

يمكننا القول هنا إن الشعوب لم تمارس الضغط الكافي؛ بل ركنت إلى مشاكلها اليومية وفي المساء يتباكون على منصات التواصل الاجتماعي ويتبارون في كيل التهم من على طاولات المقاهي على رؤسائهم الذين يرون في أنفسهم ربابنة محنكين، يقودون سفن تلك الأمم القابعة على رصيف التاريخ، في أمواج متلاطمة، باحثين عن أقرب مرفأ للسلامة، فهل تكون الشعوب شريكة في تعميق الأزمة؟ أو أنها لم تكن جادة بما يكفي لنجدة أهل غزة وليست مستعدة لتحمل ضريبة بطش الأنظمة ولهذا استكانت إلى الدعة؟!

كنتُ أراهنُ على الموقف الإسلامي في بعض مقالاتي القديمة لقيادة المشهد وتبني مواقف تُقلل من بطش الصهاينة، في ظل تبنّي بعض تلك الدول للخيار الإسلامي والتدثر برداء الصحابة والصالحين، لكن تبيّن لي أنَّها مجرد شعارات لا يُمكن تحويلها إلى أفعال أو حتى أدوات ضغط، وأنها عبارة عن أشجار لا يمكن الاستظلال بها في هجير الأزمات؛ ففي الغالب معظم تلكم الأنظمة تتزلف بذلك الرداء وتلك العمائم؛ لنيل رضا الأثرياء للحصول على الدعم المالي؛ مما جعل من سياساتها متناغمة مع الموقف العربي، ويجدون لأنفسهم المخرج من الباب الواسع، قائلين: إذا العرب لم ينصروا أبناء جلدتهم من قهر الآلة الصهيونية، فما عسانا نحن نفعل وهم يحرسون الكيان من كل جانب ويرفرف العلم الصهيوني في وسط عواصمهم؟ أما المرجعيات الإسلامية كالجامعات والاتحادات والمشايخ والعلماء، فقد باتوا كالحقائب في يَدِ السَّاسة تُفتح وتُغلق في الأوقات المحددة.

فلسطين لن يُحرِّرها إلّا الفلسطينيون، وهم اليوم يُبلون بلاءً حسنًا في ميدان المعركة؛ فرغم حديث الدم وويلات الدمار، إلّا أن روح النصر راياتها مرفوعة في غزّة العِزّة، ولا عزاء للمُتخاذِلِين من الشعوب والسّاسة، الباحثين عن لُقمة العيش بشق الأنفس، والمُلوِّحين بحرمانهم منها.