"خَلاَ لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي"

 

 

أحمد بن ناصر بن ماجد المعمري

 

يضرب هذا المثل لمن تمكّن من الحاجة، دون أي لجاجة، كحال الكيان المحتلّ، حين لم يجد من يكفّه بسيف مستلّ، وأصل المثل من أبياتٍ لطرفة ين العبد:

يا لك من قنبَرَةٍ بمَعْمَرِ ** خَلاَ لَكِ الجوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي

وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أن تُنَقِّرِي ** قَدْ رَحَلَ الصيادُ عنك فابْشِرِ

وَرُفِعَ الفَخُّ فمَاذَا تَحْذَرِي

مما يحذر الصهاينة اليوم؟ وقد رحل الصّياد عنهم، وأزال فخاخه من طريقهم، فهاهم اليوم يعششون فوق رؤوس من يرغبون، ويفعلون بهم ما يشتهون، و(ذَلِيلٌ مَنْ يذَلِّلُهُ خِذَامُ)، ليصير (أدنأ من شسعٍ) بأقدام هؤلاء اللئام، وكأن الذلة والمسكنة، تطرد شرا، أو تزيد عمرا، "الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".

بيد المسلمين زمام أمةٍ قويةٍ عنيدةٍ، ومقومات دُوَلٍ عظيمةٍ، ولكن آثروا أن يكونوا ((كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ))، لا يملكون قرار أو ثأرا، ولتحسب أن النياشين المعلقة بأرديتهم الراقية، أنهم خاضعوا معامع الحروب العالمية، ((وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ))، أو كما قال ابن زيدون: (يُسَرُّ إِذا في خَلاءٍ رَكَض)، فإن كان القتال ضد مسلم نهض، وإن كان ضد مستعمرٍ ربض، لأن القرار يأتي من الباب العالي للغالب، و(قد ذلّ من بالت عليه الثعالب)، وصدق أوس ين حجر حين قال:

إِذا الحَربُ حَلَّت ساحَةَ القَومِ أَخرَجَت // عُيوبَ رِجالٍ يُعجِبونَكَ في الأَمنِ

وَلِلحَربِ أَقوامٌ يُحامونَ دونَها // وَكَم قَد تَرى مِن ذي رُواءٍ وَلا يُغني

ولو همّ غدا الصهاينة بهدم المسجد الأقصى، لما زادوا على التنديد والاستنكار، لأنهم لا يملكون غير هذا الإقرار!

زعم الفرزدقُ أن سيقتلُ مربعًا // أبشر بطولِ سلامةٍ يا مربعُ!

كيف ترضى أمة شريفة بالترف والفرح، وإخواننا بغزة يشكون من عظم القرح، وقد كانت العرب -حتى قبيل الإسلام- تعيّر من بات شبعانا، وجاره بقربه يأنّ جوعانا، وتهجوهم بأمرّ الهجاء، كما قال الأعشى:

تَبِيتونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطونُكُمْ  // وجاراتكمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا

فما نظرتهم لمن يترك طلاب وتره، ولا يعتدّ بأمره، إلا أن يُقصى ليجرّ أذيال وزره، وجاء الإسلام ليعظّم هذه الأمور، ويكفّ عنهم الجور، فدمّ المسلم أعظم عند الله من كل ما على ظهر الدّنيا، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: "لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق" وروي بلفظ : "لهدم الكعبة حجراً حجرا أهون من قتل مسلم." فكيف وكثير من أبناء أمتنا يذبحون كالشياه بيد الجزار؟ والبقية يشاهدون كأنهم بمزار، أيرضون بهذا والحبل على الجرار؟ أمة لا تردّ عن نفسها، سيتمادى العدو في قصفها، كما رُوِيَ بكتاب الكامل مما وصل له المسلمون من الخذلان، ويذكّرنا بما نراه اليوم من هوان، لمّا تركوا دعائم قوتهم، وانشغلوا بالترف وزخرفة أبنيتهم: ((بلغني أن امرأة من التتر، دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً؛ وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمدّ أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً، نعوذ بالله من الخذلان)).

كذلك من سلّم رقبته رغبةً في السلم مع الصهاينة الشياطين، لا يلبث أن يجعلوه دميةً في أيدي الّلاعبين، وأحيانًا ليكاد سفيرهم أن يكون هو الآمر الناهي، وتحسب أن الوالي الأصليّ هو من يعمل عنده بتفاني! والتاريخ يكرّر نفسه، فحين أذعن البعض للمغول، ظنًّا منهم أنهم سيسلمون من بوائق هذا الغول، ما جعلوهم إلا خَوَلًا عندهم وعبيدا، وقتلوا من لم تحمله رجليه رعديدا، وقدّموهم لقتل إخوانهم ببقية الأمصار، بدل أن يكونوا معهم ضدّ عدوّهم كالمهاجرين والأنصار! فقد حكى ابن الأثير بما هو نصّه: ((وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينةً قدّموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم، يزحفون ويقاتلون، فإن عادوا قُتلوا، فكانوا يَقتلونَ كرهًا، وهم المساكين، كما قيل: (كالأشقر إن تقدّم ينحر، وإن تأخّر يعقر) وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين، فيكون القتل في المسلمين الأسارى، وهم بنجوةٍ منه))، وكذا حال من استسلم لهم، يكون فديةً لهم، ويجعل حائلًا بينه وبين تطلعات الشعوب، ولو أدّى أن يُضحّى به فيرسل هو وشعبه لدوامة الفقر والحروب، فلعمري لقد (استنوق الجمل)، ورعى الذئب الحمل! كأنما حين تقضى أمور الدول، جعلوا بالصف الأخير كالهمل! لا يحترمهم حتى البوّاب! فقد (نُتِفَت شَوارِبُهُم عَلى الأَبوابِ!)

وَيُقضى الأَمرُ حينَ تَغيبُ تَيمٌ ** وَلا يُستَأذنونَ وَهُم شُهودُ

وآخر شطر من الأبيات المذكورة لطرفة بن العبد بأول المقال، أجلته لهذا السّياق من الحديث لمناسبة المقام، ألا وهو:

"لا بُدَّ من صيدك يومًا فاصْبِرِي"

مهما طال الخذلان، وشعر العدو على نفسه من ضعفنا بالأمان، وتجمهر الباطل وثار، ودمّر وجار، فما هي إلا فترة تمحيص وبلاء، ليختار الله من الصفوة الصابرة من يحمل اللواء، ((أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير))، ولكن النصر أيضا يحتاج إلى تدبير، ((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ))، وإنني أشيد بتعزيز المناعة المجتمعية ضد التّصهين ببلدنا عمان، للتصدي للموجة الجارفة للتسليم والهوان، وقد قرأت في "سراج الملوك"، فقرتين تعدلان كل الذّهب المجهول والمملوك، ولو طبقا لتغير الحال، ((فدوام الحال من المحال))، بشهادة رب العباد، ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ))، فأول فقرة في اصطناع أهل العلم والريادة، وكأنهم كواكب تدور حول فلك شمس القيادة: ((كان الوزير نظام الملك الغالب على ألقابه خوجه بزرك رحمه الله، قد وزر لأبي الفتح ملك الترك ملك شاه بن البارسلان، وكان قد وزر لأبيه من قبله فقام بدولتهما أحسن قيام، فشد أركانهما وشيد بنيانهما...ألخ، وكان الذي مهد له ذلك بإذن الله تعالى وتوفيقه أنه أقبل بكليته على مراعاة حملة الدين، فبنى دور العلم للفقهاء وأنشأ المدارس للعلماء، وأسس الرباطات للعباد والزهاد وأهل الصلاح والفقراء، ثم أجرى لهم الجرايات والكسى والنفقات، وأجرى الخبز والورق لمن كان من أهل العلم مضافا إلى أرزاقهم، وعم بذلك سائر أقطار مملكته، فلم يكن من أوائل الشام وهي بيت المقدس إلى سائر الشام الأعلى وديار بكر والعراقين، وخراسان بأقطارها إلى سمرقند من وراء نهر جيحون مسيرة زهاء مائة يوم، حامل علم أو طالبه أو زاهد أو متعبد في زاويته إلا وكرامته شاملة له سابغة عليه. فكان الذي يخرج من بيوت أموله في هذه الأبواب ستمائة ألف دينار في كل سنة، فوشى به الوشاة إلى أبي الفتح الملك وأوغلوا صدره عليه وقالوا: إن هذا المال المخرج من بيوت الأموال يقام به جيش يركز رايته في سور قسطنطينية.

فخامر ذلك قلب أبي الفتح الملك فلما دخل عليه قال: يا أبت بلغني أنك تخرج من بيوت الأموال كل سنة ستمائة ألف دينار إلى من لا ينفعنا ولا يغني عنا. فبكى نظام الملك وقال: يا بني ... أنت مشتغل بلذاتك ومنهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله معاصيك دون طاعتك، وجيوشك الذين تعدهم للنوائب إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيوف طولها ذراعان وقوس لا ينتهي مدى مرماه ثلثمائة ذراع، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار والطنبور.

وأنا أقمت لك جيشاً يسمى جيش الليل إذا نامت جيوشك ليلاً قامت جيوش الليل على أقدامهم صفوفاً بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم وأطلقوا بالدعاء ألسنتهم، ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون وبدعائهم تثبتون وببركتهم تمطرون وترزقون، تخرق سهامهم إلى السماء السابعة بالدعاء والتضرع. فبكى أبو الفتح الملك بكاء شديداً ثم قال يا أبت شاباش يا أبت شاباش أكثر لي من هذا الجيش!))

وجاء عنه في الفقرة الثانية في اصطناع الرّجال، ولم أقرأ لأحدهم قطّ مثلما قرأت له في هذا المجال: ((معظم ما أهلك بلاد الأندلس وسلّط عليها الروم، أن الروم التي كانت تجاورها لم يكن لهم بيوت أموال...، وإنما كانوا يصطنعون بها الرجال، وكانت سلاطيننا تحجب الأموال، وتضيّع الرجال، فكان للروم بيوت رجال، وللمسلمين بيوت أموال، فبهذه الخلة قهرونا، وظهروا علينا. وكان من يذهب هذا المذهب ولا يدخر الأموال تضرب فيه الأمثال. ويقال: عدو الملك بيت المال وصديقه جنده، فإذا ضعف أحدهما قوي الآخر، فإذا ضعف بيت المال ببذله للحماة قوي الناصر واشتد بأس الجند فيقوى الملك، وإذا قوي بيت المال وامتلأ بالأموال قل الناصر وضعفت الحماة، فضعف الملك فوثب عليه الأعداء)).

وإن نصر الله لآت، وقد نزلت بتفصيل ذلك الآيات، ولكن لا بدّ من ثبات الرجال، وحسن البلاء بالنضال، فقد جاء في محكم الكتاب، عن رب الأرباب: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))، ((حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا))، ((وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا)).

تعليق عبر الفيس بوك