صناعة واستشراف المستقبل.. ترفٌ أم ضرورة؟!

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي **

yousufh@omaninvestgateway.com

 

المستقبل هدف متحرك يحتاج إلى التعامل معه بديناميكية ومرونة وسرعة في التفاعل مع الأحداث؛ فالعالم اليوم يشهد تحولات جوهرية في العديد من الأصعدة، وقد أصبح مستقبل الطاقة والوظائف والعديد من المتغيرات يتسم بدرجة عالية من عدم اليقين والضبابية، تتطلب منا متابعة هذه التطورات ووضع الاستراتيجيات والخطط المناسبة لمواكبة هذه التحولات والاستفادة القصوى منها.

ولا يخفى أن تقدُّم أي دولة- ومن بينها وطننا العزيز- ومساره المستقبلي، يعتمد بدرجة ملحوظة على نجاحنا في استشراف المستقبل والاستعداد له؛ بما يُمكننا لتهيئة الظروف الملائمة لإطلاق محركات وقاطرات نموه المختلفة من خلال استخدام الموارد المتوفرة لدينا وتحسين فاعلية مؤسساتنا. وعلى الرغم من إيماننا المطلق بأنه لا توجد وصفة سحرية تجعلنا مستعدين لتحديات المستقبل، وإنما يعتمد ذلك على مدى جاهزيتنا وأخذنا بالأسباب والشروط المسبقة لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والعادلة.

يُعرف استشراف المستقبل على أنه عملية منهجية تهدف إلى دراسة وتحليل وتقدير الاتجاهات والتحولات المحتملة الحدوث في المستقبل؛ سواء في المجال السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو التكنولوجي، أو حتى الثقافي، مما يمكننا من اتخاذ القرارات الاستراتيجية والتخطيط للمستقبل بشكل مدروس وبمنهج علمي. من خلال تبني المنهجيات والأساليب العلمية لمحاولة فهم التطورات التي ستحدث في المستقبل وتقليل نسبة الغموض (عدم اليقين) بغرض الاستعداد والتخطيط لتلك التطورات لمدة طويلة وذلك باستخدام أساليب كمية تعتمد على قراءة أرقام الماضي والحاضر، وأساليب كيفية تستنتج أدلتها من الآراء والخبرات الشخصية القارئة لمجمل الأحداث والمتابعة للتطورات الإقليمية والعالمية، وأساليب النمذجة الرياضية، وتحليل السيناريوهات، واستطلاعات الرأي. وتعد عملية استشراف المستقبل ضرورة ملحة ومتطلبا عصريا للمؤسسات والدول التي تعاني تحديات تنموية واستراتيجية، وليس خيارًا أو ترفًا فكريًا، نحتاج للتعامل معه بمرونة وسرعة لمواجهة التحديات والتحرز من الصدمات على كافة الأصعدة سواء تلك المتعلقة بالتطورات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية.

 

والهدف من استشراف المستقبل ليس كشف النقاب عمّا قد يحصل فيه كما لو أنه مُحدد سلفًا، وإنما للمساعدة في بنائه، مما يدعو للنظر في المستقبل كشيء يمكن بناؤه أو تشكيله، وليس كشيء مقرر مُسبقًا. وينبغي التمييز بين التخطيط الاستراتيجي واستشراف المستقبل؛ حيث إن التخطيط الاستراتيجي يعتمد على عدد كبير من العوامل في البيئة الحالية؛ سواءً كانت داخلية أو خارجية، ومن ثم العمل على استقراء البيانات في المستقبل، وهو يركز على الاتجاه الداخلي. بينما يعتمد استشراف المستقبل على تصوُّر المستقبل ويتيح المجال لوضع أهدافٍ يتم التخطيط لها اعتبارًا من الوقت الحاضر. كما إن استشراف المستقبل يتضمن تكوين وجهة نظر أوسع لدى اتخاذ القرار بشكل منهجي، ويُستخدم لتوفير الإنذار المبكر للقضايا المستجدة وفهم التحديات والفرص وتوضيح الرؤية والأهداف والتحقق من مدى ملاءمة الاستراتيجية، كما يعزز الاستشراف قدرة المؤسسات الحكومية والخاصة على وضع الخطط والاستراتيجيات لمواجهة التحديات ووضع الحلول والرؤى المناسبة للمستقبل وذلك من خلال التركيز على الموارد المتوفرة والبيئة التنافسية والاستثمارية والقطاع الخاص والسياسات الاقتصادية وغيرها.

وهناك العديد من الفوائد لاستشراف المستقبل؛ منها: أولًا: المساهمة الفاعلة في وضع الحلول للمستقبل بتكلفة أقل، ثانيًا: سرعة الاستجابة؛ حيث لا تحتاج المؤسسات والدول إلى الكثير من الوقت لاتخاذ القرارات الملائمة والتصرف على نحو فعّال، إذ يختفي عنصر المفاجأة بفضل التخطيط المُسبق، إضافة إلى جودة ودقة القرارات التي يتم اتخاذها. ثالثًا: يساعد على الإبداع والابتكار بأقل تكلفة والاستفادة من المعطيات المتاحة. رابعًا: تعزيز القدرة على مواجهة العديد من التحديات وحالة عدم اليقين السائدة في مختلف جوانب الحياة، وللوصول إلى فهم واضح لمستوى طموح أفراد المجتمع يكون قابلا للاستيعاب والتنفيذ.

إنَّ نقطة الانطلاق للاستشراف المأمول تتمثل في تشخيص الوضع الراهن للاقتصاد، ثم وضع سيناريوهات واقعية بقدر الإمكان، أخذًا في الاعتبار المتغيرات المالية والاقتصادية العالمية. ومن المعروف أنه دائمًا ما تكون الرؤية الواضحة والتخطيط السليم، دعامتين من دعائم تقدُّم الأمم. وعليه.. فإن استشراف المستقبل يُساعد على تحقيق العديد من الأهداف؛ من أبرزها: إيجاد آلية لحشد وتجميع طاقات وإمكانيات المجتمع وتجعله راغبًا ومُقتنعًا بتحمُّل بعض الصعوبات كثمن لتحقيق مستقبل أفضل، كما يساعد على التعامل مع التحديات المختلفة اعتمادًا على المعرفة والإبداع، ويمكنها من المتابعة والمراقبة وتصحيح المسار بشكل دوري وفعال مع التركيز على الميزة التنافسية. ومن جانب آخر، التعامل مع البيئة الدولية التي تتميز بالديناميكية والتطورات المتلاحقة. ومن أهم فوائد الاستشراف أنه يمكن المجتمع المدني والسلطة التشريعية من مراقبة أداء السلطات التنفيذية بما ينعكس على تحسين الأداء بصفة مستمرة.

إن مفهوم استشراف المستقبل فنٌ، وعلم التنبؤ بالمستقبل مهارةٌ علمية، وعملية تتضمن رسم نهج استباقي واعتماد سيناريوهات يمكن تحويلها إلى واقع ملموس، يرتقي بالعمل الحكومي والخاص على أسس ومعايير مبتكرة.  كما إن هناك العديد من المجالات لتصور المستقبل، أولًا: في المجال التكنولوجي الذي يتضمن كل اوجه التقدم التي تدخل في الحواسيب والطب والنقل وغيرها من التكنولوجيات مثل النانو تكنولوجي وتكنولوجيا الروبوت وتطور الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. مع الاشارة إلى أبعاد الثورة الصناعية الرابعة ومفهوم الاقتصاد التشاركي. ثانيًا: في قطاع النقل والطاقة المتجددة النظيفة والصحة والمياه. ثالثًا: في مجال البيئة المستدامة والتغير المناخي، ورابعًا، في المجال الاقتصادي، من خلال استشراف التطورات الاقتصادية العالمية، ومواكبة التحولات في أسواق السلع الأولية والأساسية العالمية والتغيرات الحاصلة على مستوى السياسات الاقتصادية.

وفي الختام.. إن الأهمية المعقودة على استشراف المستقبل ستؤتي ثمارها عندما تُصبح ثقافة مجتمعية شاملة، ويتم تبنيها كنمط للتفكير على كافة المستويات، وعندما تتوجه جهودنا لتنمية وتعزيز الوعي والتفكير المستقبليين، وهنا تبرز أهمية إنشاء مركز مستقل في السلطنة لاستشراف المستقبل، يكون قادرًا على استشراف واكتشاف المستقبل بشكل مبكر قبل ظهور التحديات والأزمات في المدى القريب والمتوسط والبعيد ومعالجتها ووضع خطط استباقية لها، إلى جانب الدخول في شراكات استراتيجية مع بعض الدول والشركات العالمية لضمان تعزيز فرص النجاح لقطاعاتنا الحيوية.

** مؤسِّس البوابة الذكية للاستثمار والدراسات