محمد بن رامس الرواس
"عمو قاعدين بيطُخُو فينا، الدبابة جنبنا، إحنا بالسيارة والدبابة جنبنا"، ثم صرخات طفلة... كان هذا صوت الطفلة هند الذي تم تسجيله وإذاعته عبر بعض قنوات التلفزة العالمية، ولقد سمع بعدها صوت إطلاق النار، بينما ابنة عم هند تصرخ، لقد تم توثيق هذه المكالمة وتسجيلها لتكون شاهدًا على حكاية شعب يتم اغتياله دون شفقة أو رحمة.
تشبه حكاية الطفلة هند رجب ذات 6 سنوات الكثير من حكايات الأسر الفلسطينية وأطفالها بغزة الذين يرزحون تحت وطأة المعاناة والتهجير والقصف، ويفرون من الموت الى الموت في أماكن أخرى بحثًا عن الأمل في النجاة، الوقت يوم الجمعة الساعة الثانية والنصف بعد الظهر والتاريخ 2 فبراير 2024م، كانت هند وأمها وأخوها الأكبر ينزحون مع باقي الأسر من غرب مدينة غزة، تحت وابل من القصف بعد أن تم تهديدهم من قبل جيش الاحتلال لهم بتهجيرهم قسرًا، لقد قررت أسرة هند الصغيرة التوجه إلى المستشفى الأهلي شرق المدينة بحثًا عن المكان الأمن من قنابل ورصاص الجيش المحتل، كان الجو في ذلك اليوم ممطرا شديد البرودة، اشتد فيه القصف الإسرائيلي بدرجة مهولة، تحركت الأسرة هاربة مع باقي جيرانهم، ولقد كان من حسن حظ هند أو قل بعد ذلك من سوء حظها أنه كانت هناك مساحة لطفلة صغيرة في سيارة يقودها عمها وأسرته المكونة من خمسة أشخاص، فقامت أم هند مشفقة على طفلتها من مُعاناة السير تحت المطر والبرد فأركبتها بعد أن ودعتها مع عمها وأسرته الذين كانوا يتزاحمون بالسيارة بينما تابعت الأم وابنها السير على الأقدام، لقد اتجهت السيارة الى شارع جامعة الأزهر في غزة، بينما أصوات إطلاق النار تسمع بكل مكان حولهم.
ولسوء حظ راكبي السيارة واجههم رتل من الدبابات الإسرائيلية أحاط بهم بعد أن أصبحوا قريبين من إحدى محطات الوقود، وهناك تعرض راكبو السيارة لإطلاق نار شرس مباشرة عليهم دون توقف، ومن داخل السيارة أُجريت الاتصالات من راكبيها طلبًا للنجدة، واتصلوا بأقاربهم يسألونهم المساعدة وإنقاذهم من الخطر الذي داهمهم، بينما وابل الرصاص غير المنقطع يمر بجانبهم وتحت أرجلهم ومن فوق روسهم فأصيب معظمهم إصابات قاتلة. بعض أقرباء صاحب السيارة اتصلوا بقسم الطوارئ التابع للهلال الأحمر الفلسطيني والذي يبعد 80 كيلومترًا في الضفة الغربية المحتلة، وأعطوهم رقم هاتف صاحب السيارة، طالبين العون منهم ويخبرونهم عن وضع السيارة، وما جرى لها فتحرك فريق إسعاف ومعه كافة التصاريح اللازمة لنجدتهم.
ظل التواصل الهاتفي بين الهلال الأحمر وراكبي السيارة يجري بتقطُّع، فلقد ردت في إحدى المرات ابنة صاحب السيارة ليان وأفادتهم بأن والدها وإخوتها قد استشهدوا جميعًا، وأن هناك دبابة تواصل إطلاق النار على السيارة دون توقف أو إعطائهم فرصة للخروج منها. كان فريق الإسعاف مكونًا من مُسعفيْن اثنين، تحركا وهما يتواصلان مع نفس رقم الهاتف، لكن هذه المرة أجابتهم هند رجب بذعر وخوف شديدين "عمو قاعدين بيطُخُو علينا، الدبابة جنبنا، إحنا بالسيارة والدبابة جنبنا" استمع إليها الهلال الأحمر، وقام بتسجيل المكالمة وأعطوها بعض التعليمات ومنها الاختباء تحت المقاعد، وبقي هذا التواصل لساعات، فلقد اتضح للفريق أنها الناجية الوحيدة وأنها لا تزال في مرمى الخطر، وظلت تطلب النجدة، بينما فريق الهلال الأحمر يناشد الجنود الإسرائيليين السماح لسيارة الإسعاف بالوصول للمكان بسرعة لإنقاذ هند، فلا تزال صيحاتها تطلب النجدة وإنقاذها، بعد مشقة ومعاناة لفريق الإسعاف ومكابدته الطريق نحو تل الهوى والتوقفات المتتالية لجيش الاحتلال لهم لإظهار بطاقاتهم، وبعد فترة الاتصال انقطع بالجميع؛ الطفلة والمسعفون.
في يوم السبت العاشر من فبراير تم العثور على السيارة التي تستقلها هند ومن معها مُهشّمة بالكامل وجميع من فيها قتلى، ولا أثر لسيارة الإسعاف وركابها الاثنين، حتى أعلن بعد ذلك الهلال الأحمر العثور مركبة الإسعاف في منطقة تل الهوى وجميع ركابها شهداء، بعد تتبع آثارهم ولم يتمكن من الوصول إليهم. إعلان الهلال الأحمر الفلسطيني، اتهم جيش الاحتلال بتعمُّد قصف سيارة الأسرة وقتلهم جميعًا، كما تعمَّد قتل المُسعفين برغم أن طاقمها يحمل كافة التصاريح اللازمة، ولم يبق من هذه الحادثة الأليمة إلّا المكالمة الهاتفية تحمل صرخات هند ومن معها تتناقلتها وسائل الإعلام العالمية.
الحكاية لم تنتهِ، وسرد مثل هذه الحادثة وغيرها مستمر، والظلم وجرائم الإبادة لم تتوقف، بينما أم هند تنعي ابنتها الصغيرة أمام المستشفى الأهلي.