علي بن سالم كفيتان
باتت ثقافة الصناديق تنتشر بصورة لافتة؛ ابتداءً من المؤسسات الحكومية وانتهاءً بالشركات، فكل فائض مالي يُبحث له عن صندوق يحتويه، بينما طوابير المنتظرين على دكة التشغيل تزداد؛ فحسب بيانات وزارة العمل والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات تخطت القائمة 100 ألف مواطن، عاطلون في وطنهم، في الوقت الذي تتسابق فيه الجهات الاقتصادية لاحتواء الفائض المالي وحفظه في الصناديق.
أي مستقبل يمكننا الحديث عنه؟ ومن الذين نُخطِط لمستقبلهم؟ أليسوا هم جيل الشباب الباحثون عن عمل اليوم؟ حريٌ بنا أن نتعامل مع الوضع الراهن بشيء من الشفافية والواقعية من خلال توظيف الفوائض المالية في تشغيل الشباب بشكل مباشر، بعيدًا عن فلسفة الشعور بأنَّ كل شيء مؤقت؛ فالوظائف المدعومة بأجور مؤقتة عبر مبادرات وزارة العمل مقطوعة من شجرة، وتعمل على تصدير المزيد من الشباب ليصبحوا مُدرجين في صندوق الأمان الوظيفي، الذي باتت أعداد المنتسبين له تتنامى، بينما المفترض أن يحدث العكس، فمن تم تأهيله وتدريبه في دورات مُتخصصة أو على رأس العمل في الشركات أو في القطاع العام يُفترض أن يُمنح فرصة وظيفة ثابتة في القطاع الذي تم تأهيله من أجله!
نتفق ولا نختلف على أن استثمارات الصناديق مهمة ونافعة في الحالات الطارئة، إذا ما تعرضت بلادنا لظروف طبيعية مختلفة مثل العواصف والأعاصير وربما غيرها، سائلين الله أن يبعد عنَّا كل شر. لكننا ننظر كذلك لوجود عشرات الآلاف من الطاقات الشابة دون عمل كحالة وطنية طارئة؛ فما عسى أن يحدث من تغيرات في السلوك البشري الذي يرى السنوات تجري أمامه وهو ينتظر في محطة التشغيل التي انقطعت عنها حافلات الفرص منذ سنوات!
هذا يقودنا للحديث عن منح الأولوية القصوى للأخذ بأيدي الشباب إلى ساحات الكد والعطاء، فلا يمكننا التجرد من هذه القضية وجعلها مسألة عرض وطلب، كما يُشير علينا صندوق النقد الدولي الذي أضر بالكثير من البلدان وزعزع أوضاعها الاجتماعية، عبر إدارة الظهر لكل ما يخدم الحماية الاجتماعية، وفتح الباب على مصراعيه للقادم من الخارج تحت مسمى الاستثمارات الأجنبية، التي يشترط كثير منها توظيف أبناء جلدتها أولًا، وخاصة في الوظائف المجزية، بينما يُترك لشباب الوطن فتات الاستثمارات، وأبلغ رسالة ما نشهده من قدوم عشرات المهندسين والفنيين من الخارج لتسيير استثماراتهم في بلدنا، فأين الفرص التي خلقتها تلك الاستثمارات المليارية لشبابنا؟
كل شيء ينمو في الجانب الاقتصادي بحمد الله، وهذا بتوفيق منه سبحانه وتعالى، ثم بفضل السياسة الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أيده الله- لكن ما لم ينعكس ذلك على بناء فرص تشغيل حقيقية للشباب- كما وجّه المقام السامي في أكثر من مناسبة- فلن نصل إلى الهدف المنشود؛ إذ إن بعض القائمين على سياسة التشغيل ينعتون الشباب بقلة المهارة، وتراجع مستوى التعليم، وعدم الجاهزية للوظائف، وكأن هؤلاء الشاب درسوا في كوكب آخر غير كوكبنا، ووطن آخر غير وطننا، فهذا الشاب أو هذه الشابة تعلم في مدارسنا وتخرج في جامعاتنا، ولا يُلام إذا كان قليل المهارات؛ بل تُلام المنظومة التعليمية بشقيها المدرسي والجامعي، التي نتج عنها هذه المخرجات، ووجب علينا جبر الضرر من خلال استيعابهم والأخذ بأيديهم وإعادة تقييم سياستنا التعليمية جذريًا بكل وضوح، لتفرز لنا الكفاءات التي نريد، ودون ذلك لن نستطيع تخطي هذه العقبة.
يتفق علماء الاجتماع في أطروحاتهم المختلفة على أن الشباب طاقة كامنة ذات ثلاثة أوجه، إن لم يتم توظيف الوجه الأول بالشكل الصحيح في الأعمال والسلوكيات الحميدة تصبح السلبية أمرًا حتميًا؛ ليبرز الوجه الثاني وخاصةً إذا ما تراجع الوازع الديني والأخلاقي، وهذا يقود بدوره لتعظيم تكاليف مُجابهة الجريمة، التي قد تساوي أحيانًا تكاليف التوظيف السليم لمهارات ورغبات الإنسان، بينما يكون الوجه الثالث هو اليأس والقنوط، الذي يقود للانعزال وكُره الحياة وحب الموت أو الكفر- والعياذ بالله.
إنَّ الشعور بتراجُع المساواة والعدالة الاجتماعية يُراكم المشاعر السلبية، ويُغذِّي السلوك غير الحميد؛ فالإنسان كائن فطري جُبل على الدفاع عن أساسيات حياته: الغذاء والكساء والمسكن والعيش الكريم.
حفظ الله بلادي.
****************
يقول أديب صيني في مذكراته: "الأوطان ليست حصَّالات نقود؛ بل مساحاتٍ رحبةٍ وفسيحةٍ من الفرص والأمل في غدٍ أفضل".