معًا نتقدم.. ودور القطاع الخاص

 

 

◄ القطاع الخاص ما زال غير قادر على الإسهام في حل ملف التوظيف لغياب السياسات التحفيزية

◄ المؤشرات والأرقام تؤكد التحديات الكبيرة أمام القطاع الخاص

فك شفرة القطاع الخاص يستوجب إجراء تغيير حقيقي في الفلسفة والأدوات والسياسات والنظر إلى رجال الأعمال على أنهم صُنّاع المستقبل

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي **

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تتقدم بلادنا بخطى واثقة للارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة، ويستوجب ذلك أن يتحرك الجميع معًا- حكومة ومجتمعاً وقطاعاً خاصاً- بشكل متلازم، لأن تأخر أيٍّ من الأطراف يعني تأخر الجميع.

ولا يخفى أن المؤشرات المحلية والأجنبية تقول إنَّ الحكومة تتقدم بوتيرة عالية وهناك تحسن في الأداء على مختلف الأصعدة، ولسنا هنا بصدد الحديث عن ذلك ولا عن قطب التنمية الثاني المتمثل في أفراد وأسر المجتمع العُماني، لأننا نخصص حديثنا هنا عن قطب التنمية الثالث؛ وهو: القطاع الخاص، والذي لا تستقيم معادلة التنمية بدونه؛ فهو يمثل صمام الاستدامة للإيرادات الحكومية وتوفير الوظائف للباحثين عن العمل بعيدا عن هزات أسعار النفط. ولا يخفى الاهتمام الكبير بالقطاع الخاص في جميع الأمم؛ لأنه أساس البناء والموكل إليه التعامل مع جميع التحديات، وهو الأقدر عليها أينما كانت مراحل نموها. وتتزايد أهمية القطاع الخاص في الدول التي تسعى إلى تحقيق نقلات نوعية في هيكلة اقتصادها نحو الإنتاج والتصنيع والتصدير وزيادة الاندماج في سلاسل التوريد العالمي؛ أي تسعى للتنويع بمعناه الواسع، وسلطنة عُمان من بينها؛ حيث سطّرت الخطة التنموية طويلة الأجل والمتمثلة في رؤية "عُمان 2040"، التوجّهات الرئيسية القادرة على إحداث النقلات النوعية في الاقتصاد الوطني، ومن أهمها الاندماج والتعاون الدولي من خلال قطاع خاص ممكن وتنافسي، وكذلك لا يخلو حديث لقائد البلاد المفدّى- حفظه الله- من التأكيد على الدور المحوري للقطاع الخاص.

وفي محاولة لسبر أغوار القطاع الخاص والتعرف على بعض المؤشرات والتي تستوجب منِّا قراءة متأنية وتحليلًا عميقًا، أملًا في الوصول إلى السياسات العامة المطلوبة لاستعادة زخم نموه؛ كونه العامل الأهم في تعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية والمكانة المرموقة للسلطنة، فإنَّنا- في سبيل ذلك- سنتجنب آراء وقناعات عموم رجال الأعمال وأفراد المجتمع ومتخذي القرار، على أن نرتكن إلى بعض الإحصاءات- وإن كانت شحيحة- في محاولة لاستنطاقها، علّها تُعين على تشخيص أوضاعه.

أولًا: أبدأً بالقضية الوطنية الأهم للأمان الاقتصادي والاجتماعي؛ وهي قدرة القطاع الخاص على توليد الوظائف، من خلال دخول الأعداد المتزايدة من أبناء عُمان والتي تقدر بـ60 ألفًا إلى سوق العمل سنويًا في مهن مناسبة، وعلى الرغم من أن مجتمعًا تعداده في نهاية ديسمبر 2023 لا يزيد عن 5.16 مليون نسمة منهم 56.7% عُمانيين (أي 2.9 مليون نسمة)، ولو استثنينا منهم صغار وكبار السن وربات المنازل، نجد أن النسبة المتبقية ليست كبيرة، إلّا أنها لا تزال تمثل مُعضلة يصعب التعامل معها، منذ عقود، والسبب الرئيس- من وجهة نظري- هو كيفية التعاطي مع القطاع الخاص وتحفيزه بالسياسات المناسبة.

فعلى الرغم من أنَّ شركات القطاع الخاص هي المشغل الأكبر للمواطنين، إلّا أننا نلاحظ أن المؤشرات الإحصائية تشير إلى تراجع قدراته في استحداث فرص العمل للعاملين العُمانيين في القطاع الخاص. وتشير المؤشرات إلى أننا قد خسرنا، خلال الشهور الإحدى عشرة المنقضية من هذا العام، ما يزيد عن 11 ألف وظيفة للعُمانيين في القطاع الخاص المؤمن عليهم أو ما نسبته 4.0% مقارنة بالعام 2022، في وقت نحن أكثر ما نحتاج إليه، توليد الوظائف؛ الأمر الذي يمثل مؤشرًا خطيرًا يحب التوقف عنده.

ثانيًا: تحمل الجريدة الرسمية التي تنشرها وزارة الشؤون القانونية مؤشرات مهمة في هذا الشأن؛ حيث تنقل بين صفحاتها نشر إعلانات بدء أعمال التصفية لشركات القطاع الخاص، والتي أوضحت أن عدد الشركات التي تم تصفيتها خلال العامين الماضيين 2022 و2023 يتجاوز 7 آلاف شركة، وهذا رقم كبير لاقتصاد يحاول النهوض وتشجيع الشركات المحلية واجتذاب الشركات الأجنبية.

ثالثًا: في إحصائية مُماثلة نُشرت في "تقرير المجتمع" الصادر عن جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، يشير التقرير إلى "انسحاب 1225 مشروعًا بمساحات بلغت 12 مليون متر مربع بعضها كانت في مراحل الإنتاج"، ولا يخفى عدد الشركات التي تُعاني من تعثر وضوائق مالية أجبرتها على البدء في تسريح موظفيها ونقل أعمالها إلى دول مجاورة.

رابعًا: وهو مؤشر في غاية الأهمية لرفد الميزانية العامة بالإيرادات أسوة بالدول المتقدمة التي نسعى إلى الوصول إليها، وهو إيرادات ضريبة دخل الشركات؛ حيث تشير التقديرات إلى أن في حدود 3% فقط من إجمالي الشركات تدفع ضريبة، بينما 97% من الشركات لا تدفع ضرائب، وأن عدد الشركات التي تدفع ضريبة في تناقصٍ، والضريبة المُحصّلة من هذا البند لا تحمل أهمية نسبية كبيرة في إجمالي الإيرادات العامة؛ وهي في تناقص.

ولضيق المساحة، لن أُسهِب في استعراض مؤشرات مدى إقبال المستثمرين والشركات المحلية على توسعة أعمالهم في السلطنة، ناهيك عن تواضع حصاد السلطنة من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.

لذا نقول إن هناك العديد من الأسباب لتباطؤ وتيرة نمو القطاع الخاص، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: أن التحسُّن في أوضاع المالية العامة ومؤشرات الاقتصاد الكلي المدفوع بارتفاع أسعار النفط، لم ينعكس على تحسُّن مؤشرات القطاع الخاص، وهذه مُعضلة تتكرر مع كل موجة صعود وهبوط لأسعار النفط في مراحل النهضة في عقودها الخمسة المنصرمة.

تستوجب الحلول المتاحة لفك شفرة القطاع الخاص، مراعاة العديد من التطورات والتغيرات المتسارعة محليًا ودوليًا، وإجراء تغيير حقيقي للفلسفة والأدوات والسياسات للتعامل معه والنظر إلى رجال الأعمال على أنهم صُنّاع المستقبل.

ولا يخفى أن هناك تحديات واضحة في عناصر الإنتاج التي تمثل أبجديات بيئة الأعمال، بدءًا من رأس المال ونُدرته، وارتفاع تكلفته وصعوبة اشتراطاته، وسوق العمل، وتدني الإنتاجية، والقدرة على الابتكار في القطاع الخاص، إضافة إلى ضعف معدلات الادخار والاستثمار وشكلية الشراكة بين القطاعين العام والخاص دون آلية رسمية للحوار بين القطاعين، لمعالجة التحديات واستغلال الفرص، وكذلك أهمية وجود الإدارة الاقتصادية القادرة على ضبط التنسيق بين الجميع؛ بما فيها الحكومة، والقطاع العام، والقطاع الخاص، ومجلس الشورى، والجمعيات المهنية، ومؤسسات المجتمع المدني، على تحديد دور ومهام كل طرف بوضوح في المرحلة المقبلة.

ومن جانب آخر، ما لا يمكن حصره لا يمكن قياسه وإدارته، ولا بُد من الارتقاء بمنظومة الإحصاءات الشحيحة الخاصة بالقطاع الخاص، والفصل بينه وبين شركات القطاع العام؛ لتحديد مساهمته الحقيقية في الناتج المحلي والتكوين الرأسمالي والصادرات وتوليد الفرص، وذلك من أجل إيجاد قواعد بيانات قابلة للتحليل والتشبيك والربط لإيجاد الفرص المتاحة لشركات القطاع الخاص. كما إنه من المهم إيجاد توليفة للشراكة بين أقطاب التنمية، القطاع الخاص والحكومة ومصالح الأفراد ومؤسسات المجتمع.

وختامًا نقول.. إن سلطنة عُمان تمرُّ بمرحلة تحوُّلات اقتصادية مُهمة، فبعد النجاح في التعامل مع قضايا اقتصادية مُركّبة كتلك المرتبطة بالوضع المالي وارتفاع الدين العام وانخفاض التصنيف الائتماني وغيرها، لا بُد من تغيير آليات التعامل مع القطاع الخاص، وضرورة فهم المعطيات المحلية والإقليمية، وإجراء تغيير جوهري في الأدوار بين الحكومة وشركات القطاع الخاص؛ بما يتوافق مع المرحلة وحاجات التنمية، بحيث تُركِّز الحكومة على تمهيد الأرضية وتجهيز الأُطر والممكنات المناسبة للقطاع الخاص لينهض ويقوم هو الآخر بدوره في رفد الميزانية وخلق فرص العمل واستجلاب العملة الأجنبية.

ولتحقيق هذا التحول لا بُد من تبني مبادرات استراتيجية غير الممارسات التقليدية السائدة؛ إذ إن هناك غياب واضح لدور القطاع الخاص ورجال الأعمال، ولذا لا بُد من شحذ هممهم وتحفيزهم وتمكينهم ومساعدتهم على النجاح، لأنَّ هناك أدوارًا للاستثمار والإنتاج والتصنيع والتصدير والزراعة والصيد والسياحة واللوجستيات، وهي أدوار أصيلة للقطاع الخاص، ويجب على الحكومة أن لا تُقحم نفسها فيها؛ فالقطاع العام وُجِدَ لخدمة شركات القطاع الخاص كي تتمكن من تحريك عجلات الاقتصاد، وكذلك خدمة المواطنين، ليعيشوا سعداء في مستوى معيشي مناسب، أمّا غير ذلك فليس سوى تكرار لأخطاء تقليدية.

وأخيرًا.. نقول إنَّنا نحتاج لشغف وإرادة الجميع لتحقيق التنمية المنشودة، ونؤكد أنَّ البناء على حضارة الأقدمين يستوجب عطاءً مختلفًا من الحاضرين، لفك شفرة التنمية، كما إنه يتطلب- وبقوة- شغف الشباب القادمين.

والوطن من وراء القصد.

** البوابة الذكية للاستثمار والدراسات