فاطمة اليمانية
"أنتَ مسؤول عن السَعي، لا النتيجة"!
***
قالت بصوتٍ ساخطٍ بعد معرفة درجات ابنها:
- لم تكن أتوقع أنْ أحصلَ على هذه النتيجة؟!
لكن تقطيبة جبينها تلاشَت حال سماع ضحكةِ شقيقتها عليها!
- سلامات!
وانتبهت إلى أنّها تقمّصت الدور! وبأنّ ابنها هو الذي اجتاز الاختبارات، وهو من حصلَ على النتيجة!
ولو تمّ سؤالها عن مستواها العلمي؛ فإنّها لا شك ستقول:
- في الصف الخامس!
أمّا ابنها، فكان فَرِحًا بتفوقه، ورقصَ رقصًا غريبًا حال سماعه نتيجة الفصل الدراسي الأول، تلك الرقصة التي يخترعها الأطفال دون انسجام أو تنسيق أو مغزى! وقالت له بعد أنْ شعرت بدوار، وهي تتابع حركاته:
- ماذا تفعل؟
- أرقص رقصة الهنود الحمر!
- لا يرقصون هكذا!
- بلى، قبيلة من قبائل الهنود الحمر يرقصون هكذا؟!
لكنّ شعورها بالأسى على درجة إحدى المواد جعلها تتراجع عن جداله، فهي تذكر أنّهما ذاكرَا جيدًا! فأينَ الخلل؟
طلبت منه الجلوس قربها، وتصفحت ورقة الاختبار مرّة أخرى، وقالت له:
- أنتَ أخطأت هنا؟!
- نعم... كتبت اسم (ابن حُذَيم) في خانة ملوك عمان قديمًا!
- لكنّه طبيب!
- وما يدريك أنّ كاتب التاريخ لم يكذب بشأنه؟
- ولماذا يكذب؟!
- لكنّك قلت سابقًا بأنّ معظم التاريخ محرّف!
- قلت لخالتك، لصديقتي! لأيّ شيطان أهذي معه! لم أقل لكَ ذلك أبدًا!
- اعتبريه ملك الأطبّاء وافرحي!
وتدخلت شقيقتها لفضّ الجدال بينهما، وطالبته بالخروج إلى باحة المنزل للعلب، فخرج وهو يقلد عواء الذئب، ويتنطط -كالهنود الحمر- كما يعتقد!
كان غيظها شديدًا على واضع اختبار تلك المادّة، كيف يفكر؟ وماذا يتوقع أنْ تكون إجابة الطالب على أسئلة مبهمة! وتحتمل أكثر من تفسير! ولماذا تكون نماذج الاختبارات بعيدة كلّ البعد عن الاختبار الفعلي الذي يقدّم للطلبة؟! وعن نمط الأسئلة الموجودة في الكتاب؟!
وشطح بها الخيال للتفكير في نتيجة تشريح دماغ بعض واضعي الاختبارات! وهل ستكون تركيبة أدمغتهم مختلفة؟ وهذا الاختلاف هل هو سبب صياغتهم لأسئلة معقّدة؟
لكنّ ابنها لم يخطئ في سؤال واحد كما يبدو! وليس في اعتبار الطبيب ملكًا! أو اعتبار المدرسة وطنًا! أو الخطأ في حساب التوقيت لدقائق تزيد عن الساعة! رغم ذلك كان مسرورًا بالنتيجة، ووعدها بأنْ يجتهد أكثر من ذلك في الفصل المقبل!
وطالبها بهدية النجاح والتفوق... ولم ترد عليه! حتّى بعد تصفيق شقيقتها لفكرة إقامة حفل بسيط! لأنّها انشغلت بذكريات الدراسة في زمنٍ عتيق خارج إطار الزمن! حين كانت تدرس مع طالبات يعتبرن النجاح هو عدم الحصول على دائرة حمراء في الشهادة، ويوزعن الحلويات والبارد على الجيران، ولم يعبأن كثيرًا بمن حصل على المركز الأول، أو الثاني، أو الأخير!
ولم يهتم أولياء الأمور كثيرًا بالدرجات، فالفرحة كانت تعمّ الجميع، وكلمة مبارك تسود الأجواء طوال الأسبوع، وتكون المكافأة هدايا رمزية بسيطة، أو رحلة إلى أحد الأودية، أو المدن المجاورة.
وكبرت كما كبرت فتيات الحارة على أنْ حقيقة الوجود تتمثل في تكوين أسرة سعيدة، وأنْ تكون الفتاة ربّة منزل مطيعة، وتجيد الخَبْز! ولا تعرف لماذا مسألة الخَبْز كانت عالقة في توصياتِ والدتها وجدّتها وقريباتها!
- من العار ألّا تجيد الزوجة الخبز!
- ماذا عن المخابز المنتشرة؟!
- قذرة!
وتحدثن عن قصص كثيرة تدل على قذارة الخبّازين في ذلك الزمن! رغم أنّ شراء الخبز من الأفران كان روتينًا يوميًّا سواء خبزت نساء العائلة، أو لم يخبزن! ولم تشاهد إحداهن تمتنع عن تناولِ خبز الأفران! وعندما سألت والدتها:
- أليس الخبّاز قَذِرًا!
- سَمّ الله، وكُلي بيمينك!
- سيصبحُ نظيفًا!
- اخرجي والعبي على البحر!
ذلك الجدال الذي كانت تطحن فيه مزاج والدتها وجدّتها، يعود لها مرّة أخرى على لسان ابنها! وذلك السخط الذي مارسته عندما كانت مجبرة على حفظ تسلسل الأسر الفرعونية الحاكمة في مصر قديمًا، يمارسه ولدها الذي يقول لها:
- يسلم خالي عليكِ ويقول لكِ: لا تضغطي عليّ في المذاكرة؟!
ولم يكن ثمة ضغط، فهو كان يستريح بين الاستراحة والأخرى! ويستلقي على الكنبة، وعلى السجّاد، وعلى السرير، وعلى الطاولة إنْ كانت فارغة من دلّة الشاي! بل أصبح أكثر رشاقة في التنقل والحركة! ويسألها أثناء المذاكرة:
- تريدين ماء؟! عصير! قهوة!
- اصمت!
- أمّي شريرة!
لكنّ أمّه الشريرة في حقيقة أمرها تذاكر مثله، وتحفظ الأسماء والتواريخ، وفي يوم الاختبار، وبعد وصول نسخة من الاختبار في جروب الأمّهات، طبعت نسخة ورقية، وأمسكت الورقة وأخذت تجيب على الأسئلة! وعندما شاهدتها والدتها ضحكت ساخرة منها، وقالت لها:
- عقبال الصف السادس!