قصة القرية العالقة (13)

 

 حمد الناصري

ولىّ أحمد بوجهه شطر بيتهم القديم، وجلس إلى جانب أمه وراح في غفوةٍ كبيرة وهو في أحضانها، شعر بأنهّا وسّدتهُ بذراعها الأيمن.. وحين فاق من غفوته، قالتْ أمه خديجة:

ـ كان أباك مصدرَ قلق كبير لهذا المشروع ولم يرض عنه المسؤولون وكانوا يتمنّون الخلاص منه، وبقيَ على ذلك الحال حتى آخر رمَق من حياته.

وأقبلت عمته بوجهٍ يحمل ابتسامة خبيثة، وأردفت:

ـ وكما قالتْ أمك، فأباك بقيَ على رفضٍ مُستمر وبجرأة وشجاعة.. ولم يتوقف عبدالله عن التنديد وكانت صَلابتهُ عِزّة المُجتمع.

ولا شك فإنّ أهالي قُرى الساحل رفعوا شعاراتٍ كُتِبت بالخط العربي العريض، على أقمشةٍ ناصعة البياض، وكتبوا على أَوْزِرة كانوا قد اتّزروا بها، عبارات مُندّدة بالجهة المُنفذة للمشروع، رافضين بشجاعةٍ حُجج الجهة المَعنية جُملة وتفصيلاً.. وآخرون رفعوا الأكفّ بثباتٍ وصُمودٍ قهَر خُصومهم، وقد وضَعوا أكفّهم فوق جباهُهم وكتبوا عليها عبارات.. لا لخيانة القرية.؛ رافضين كُل ما يتعارض مع منافع القرية وساكنيها.

بدا على أحمد شُعور غريب، شُعور بالقَهر والتّيْه وعدم الأمان.. وبدا الحُزن يتغلغل في أعماقه ويُثقل قلبه بوحشية، دفعهُ إلى الشعور بالخُذلان لكون وحدهُ بغير أبيه وخشيَ أنْ يُفرّط في حق قريته وأهله إنْ تساهل وتخاذل، وحدّث نفسه، كم هو مُؤلمٌ أنْ تَشعر بالغُبن إذا ما ضيّع الانسان في انْتماءه وأفسد تاريخه.؛

وأيّما حضارة وإنْ امْتدت إلى مئات الآلاف من السنين، وخلتْ من القِيم والأخلاق فقد تجاوزت قِيَم الحضارة وأخلاقها وأسباب التعايش.؛

سحب نفساً بغضب وأخرجه زفرة واحدة، كوّر يده اليُسرى ووضع سبابته على شفتيه، إكْفَهر وعبس.. وجهر بصوت يُسمع نفسه به.. الوطن إنْتماء يتجاوز المَشاعر، مِقْياسه مُستقبل يتجدّد في داخلنا، الوطن انْتماء الوطن مِعْياره كرامة وشُموخ، الوطن عِزة لا يُفقدك الموت كرامته.

قرأت كتاباً قديماً.. اعجبني ذلك النصّ الذي جاء كمدخل للمُواطنة الآمنة، يحمل في طيّه قِيَم الوطنية

ومشاعر الانتماء.. الوطن بُقعة جميلة في وُجْدان الانسان، الوطن شُعور يُساورك وسِراّ يُحيطك، عاش عليه الآباء والأجداد مُنذ زمنٍ بعيد غابر.. يَجرّك الحنين إليه ويجذبك الشوق إليه.. الوطن عِشْق لا ينتهي ولو بَعد سِنين.؛

صمت قليلاً ثم نظر وبسَر وكلحتْ أسنانه وبرزتْ وهو يضغط على شفته السفلى، وقال:

ـ الغُرباء عينهم على القرية والخُصوم يُخفون أصُولهم، ويكتمون سِراً علاقتهم بها، فالقرية تُرابها قيَم وشرف وعِزّتها شموخ ورِفْعَة، ومهما تبلّد الحمقى، فإنهم سيذوقون وبال أمرهم وسيلقون شرّ أعمالهم، فصُروف الدهر مُتقلّبة غادرة لا تستقر إلى حال.

نهز رأسه بضيق، فتخايلَ القرية بامتدادها البعيد وتَراءَ له بحرها المُتصل وكأنه جوهرة يُحيط بالقرية، يحرسها بطمأنينة، فأزهرت نفسه فرحاً، وتوسّع قلبه مسروراً، وأردف:

ـ إنّا إليكِ عائدون وإنْ تقطّعت بنا السُبل، فأنتِ العِزّة والكرامة، لن نترك شِبْراً أبدع فيه آبائنا، لن تهجع أنفسنا إلاّ وتُرابك في قبضتنا، لن نتنازل عن الإرث العظيم حتى لو يتعايش أهلنا مع خُصومنا، الذين تقطّعت بهم مسافة الأُلْفة، فالسلام اشتقّ من اسمك مُكوّناً الامان.؛

وفجأة تخيّل صُورة ذلك الرجل، جميل الصُورة، ذو نبرة مُهيبة، فوجد نفسه يحدّثهُ ويُحاوره بكلام شيّق وجميل:

ـ أهل قريتنا سِيرة واحدة.. لا فِرقة بينهم ولا تفرّق، والذين جاؤوا بالغُرباء يظنون أنهم خير لهم، فاتخذ بعضهم فظاظة وغِلظة طريقاً ، فهم لم يقرؤوا التاريخ ، لم يَفهموه ، لكنهم اغتالوا القِيم وقتلوا السِيرة وكادوا التاريخ ظُلماً وقد خابَ من حملَ ظُلماً وخسِر مَن سَعى لمحو حضارة ناعمة امْتدت من نقطة مياهٍ دافئة إلى أقصى المياه السوداء ، تلك البحار كانَ أهل قريتنا يجوبونها ويَشُقون عُبابها منذ القدم ،حتى أنّ قريتنا البعيدة كان لها مَلكاً يأخذ كل سفينة غصباً ، ذُكرت تفاصيله في أكثر من مَصدر تاريخي ، وفي تُراثنا تِبْياناً للناس ، بأنّ أهلنا تُراثهم مُصَان وتاريخهم محفوظ ومنهجهم السلام لكل الناس ولا يزالوا عاملين عليه.. أما أؤلئك البُلهاء، لم يجهلوا تاريخنا العظيم ولكنهم شذّوا عن قاعدة ماضي القرية التّليد.. ولن يتحصّلوا على سِيْرة دافئة وحضارة ناعمة..؛ ولن يجدوا شُموخاً عالياً ولا تاريخاً عظيماً ولا سيرة عالقة مِثْلها.

ـ هوّن عليك ـ بُني ـ فالسُرور قليل والمِحَن كثيرة، وأولئك لا انشطة مَعرفية لهم ولا طاقة ايجابية مَشحونة القُدرة الابداعية؛

وأكثر الذين اتفقوا مع تجربة القرية، قد آمنوا بأنّ للتاريخ أخطاء، وأنّ لكل فِعْل إسْقاطات في المَنشط

والمَكره.

عقّب أحمد على حديث الرجل ذو النبرة المُهيبة:

ـ تخلّت القرية العظيمة عن سيرتها الأولى وتركت لساحلها يُسْر بالأمان وعُسْر في السلام.؟ أليس ذلك

مَكرهاً على المدى البعيد، وعُسْرٍ لا يُسْرَ فيه.؛

ـ كل ما تحدّثت عنه، نقائص وإسْقاطات خاطئة وكُل ذلك من عُيوب البشر.؛

ـ كنت أخشى أنْ يبقى ذلك الاختلاف عالقاً وعِبْئاً غامضاً على أهل قريتنا.؛

ـ إنّ تمحيص الذِهن واستكشاف الزلَل.؛ أهم عائق تُواجهه القرية، لقد مرّت القرية بظروف أدّت بها

إلى انقسامات ديموغرافية وأيدلوجية.

ـ ولكن المكائد على قريتنا لا تنتهي، وكانت لُعبة الأغراب المخاوف المُستعرة من البحر العميق وقرية

الرأس.

ـ الاغْراب ـ بُنيّ ـ استعملوا نظريتهم الماكرة  "فرّق تَسُ" لُعبة ماكرة أجّجتْ الموقف المُتأزّم إلى صراعات داخلية. عُرفت محلياً باتفاق" لُعْبة السنور والفار".

 

ـ نعم أعرف تلك النظرية البائسة المعروفة محلياً بـ "لعبة السنور والفار "ذلك الدّاء المُنتشر" فرّق " فتفرّقت القرية والساحل وأثيرت المخاوف وضَعُف المُجتمع، وكان لا بُدّ من دواء يُهادن حصيلة المُختلف والمُتفرّق" تسدّ" ولم يسدّ ما تفرّق، غير ما أنْبأتْ به ، أنْ لا عودة إلى ساحل طويل، ذلك ما توصّل إليه الغُرباء، وكان دهاءً غير متوقّع ومكرٌ لازم أم الخبائث ، وكان دعم الغُرباء لرجال قريتنا اتفاق ساحل يُهادن الجميع .

حزن أحمد وبقي صامت، ولم يَبح بشيء، وقال:

ـ أخطأنا كثيراً عندما منحناهم كل شيء ووافقنا غُرباء الخبائث بكل شيء، مُؤلم جداً، ولا أكاد أُصَدّق، وأنا أتأمل المسافة بين داء "فرّق" وبين دواء" تسَدّ" كلاهما قصة مُحزنة، والأخرى أكثر قسوة، يبقى حُزنها كما لو أنها علامة جُرح غائر مُؤلم، انكشفت الإصابة وبقي الوجع.؛

ـ ـ بُني ـ ما أراهُ صواباً الآن، هو عدم التفريط في قرية الراس والمَمر العميق، استمسكوا بثلاثتهنّ. الساحل الكبير. المَمر العميق. القرية العالقة. ثم افْعلوا ما شئتم.. هادِنوا أو لا تُهادنوا، وكونوا في حذر ويقظة من غُرباء الشّر، وانتبهوا من خباثةٍ بين جنبيكم.؛

تعليق عبر الفيس بوك