التعليم وسيمياء التنمية

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

ورَدَ في النظام الأساسي للدولة، وضمن المبادئ الثقافية الموجهة لسياسة الدولة، أن "التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية العُمانية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب، وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح والتآلف"، وجاء التعليم في مقدمة أولويات الرؤية الوطنية "عُمان 2040"؛ وذلك لأهمية هذا العنصر في بناء الدولة الحديثة، وضرورية الدور الذي يلعبه في رسم مسار المستقبل.

ولعل دولة مثل سلطنة عُمان لا يحتاج شعبها إلى كثير من الحديث حول أهمية التعليم وأثره في التنمية، فقد عانى أبناء الشعب قبل فجر النهضة المباركة في عام 1970 من الجهل وآثاره والتي صبغت تلك المرحلة بصبغة سوداء أثرت على كل فرد من أفراده، بل إنها ساهمت في تراجع القيمة الحضارية لإمبراطوية امتدت إلى سواحل أفريقيا وصنعت إرثًا ثقافيًا وعلميًا وعمرانيًا ظلّ شاهدًا عليها لقرون عديدة، وهذا يجعلنا نقف كثيرًا حول الثمن الذي دفعه هذا الشعب نتيجة التأخر في قرار ركوب قطار التعليم النظامي وأسس بناء الدولة العصرية وما خلفه من أثر على مسيرة التنمية.

لقد تجاوزت سلطنة عُمان مرحلة خاصة من مراحل التاريخ وعادت إلى مسارها الصحيح، وقامت نهضة شاملة مرتكزة على التعليم كمحور ثابت تبنى عليه باقي الهياكل وتدور من خلاله عجلة التنمية، ولو رجعنا إلى جميع الحضارات عبر التاريخ سوف نجد أن ركن العلم والمعرفة هو سبب قيامها وتفوقها واستمرارها، وإن التراجع في هذا الركن هو سبب هدمها وفنائها وسقوطها، فالعلم يقيم الأمم ويرفعها والجهل يهدمها ويفنيها، هذا المبدأ كان حاضرًا في ذهن مؤسس عُمان الحديثة ومفجر نهضتها المغفور له السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، وهو النهج الذي يسير عليه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه-، قيادة رشيدة أدركت حقيقة انعكاس التعليم على التنمية وضروريته الحتمية لبناء الدولة.

واليوم.. ونحن ننظر إلى 53 عامًا مضت من مسيرة النهضة والتنمية وانطلاق مسيرة التعليم الحديث في وطننا العزيز، فإننا يجب أن نُحلل ونقيم الأثر الذي صنعه التعليم في هذا البلد وتبلور نتائجه إلى واقع تنموي، وما يجب أن يكون في المستقبل. وهناك العديد من الأسئلة التي يجب الإجابة عليها حول مسيرة التعليم وسيمياء التنمية بجميع جوانبها. ونظرًا لأننا نتحدث عن محور التنمية، فمن المهم أن نضع في حسابنا المتغيرات والتأثيرات المحيطة التي شكلت مسار التعليم وحددت شكله العام. وفي مقال مثل هذا لا يمكن الغوص في قضية التعليم والإبحار عبرها؛ بل إن الأمر يتطلب بحثًا عميقًا وتحليلًا منهجيًا وساعات طويلة من الجهد المركز، ولكن سوف أضع تساؤلًا مُهمًا أرجو أن يُجيب عليه القارئ وهو: هل نرى أثر التعليم في التنمية؟

إنَّ الإجابة على بعض التساؤلات تُعطينا نظرة عامة عن واقع التعليم لدينا، ولو انطلقنا من النظام الأساسي للدولة، ومحاولة قياس مدى كفاءة منظومتنا التعليمية، وتساءلنا هل حقق التعليم تلك المبادئ؟ سوف نستطيع الخروج بتقييم عام يمكن اعتباره حقيقيًا نظرًا إلى أن الدول تستمد استراتيجياتها ومنطلقاتها وخاصة في التعليم من هذه المبادئ، ولذلك لاحظنا في فترات معينة كان هناك حديث حول أهمية تطوير منظومة التعليم، وتم الاستعانة ببيوت خبرة عالمية لتقييم التعليم وتقديم الحلول التي من شأنها معالجة الخلل فيه، وإن المختص والقريب من الواقع حتمًا يدرك التحديات التي واجهت التعليم خلال الفترة السابقة، والتي ساهمت في ظهور آثارها على منظومات متعددة مثل سوق العمل والمنظومة القيمية والنمو الاقتصادي والمالي والحياة الاجتماعية.

إن التعليم في الوقت الحالي وخاصة في هذا القرن المنفجر معرفيًا لا يُشبه التعليم في السابق، فلكل مرحلة حاجاتها ومتطلباتها، وإن الجمود الفكري هو العدو الأول للتطوير ومواكبة العالم الخارجي؛ فالكثير من الدول غيّرت فلسفتها التعليمية واستبدلت أنظمتها بما يواكب متطلبات الزمن، وبما يضمن لها البقاء ضمن الدول المتقدمة، بينما فضّلت العديد من الدول الاستمرار والبقاء في "منطقة الراحة" وعدم مغادرتها؛ فأصبحت أنظمتها تنتج مخرجات لا فائدة منها ولا مكان لها في المنظومة الحديثة للأعمال، التي تطلب مخرجات بمهارات خاصة تناسب القرن الحادي والعشرين، هذه المهارات التي أصبحت محور التخطيط للتعليم في العصر الحالي.

لم تدخر حكومتنا الرشيدة جهدًا في سبيل الرقي بالتعليم ترجمة لنهج القيادة الرشيدة التي وضعت التعليم في وضع خاص منذ أول يوم للنهضة، ووفّرت جميع السبل لتحقيق نهضة شاملة في التعليم، ومن أجل ذلك رصدت الموازنات الكبيرة وجعلت التعليم في قمة أولويات الاستراتيجيات وخطط التنمية، وهذا أمر ربما تفتقر له العديد من الدول التي تعاني اقتصاديًا، في المقابل هل حقق التعليم مستهدفات التنمية؟ وهل ترجم الانفاق والاهتمام الى واقع ملموس؟

وقبل أن نضع إجابات على تساؤولاتنا، يجب أن ندرك أن مفهوم التنمية المقصود هنا هو "التغير المقصود الموجهة والمخطط باتجاة ضمان البقاء وتحقيق الاستمرارية والرفاهية والنمو للمجتمع في جميع الجوانب؛ اقتصادية او اجتماعية او ثقافية او سياسية او إدارية  او قانونية... إلخ"، ولا يقتصر على الجانب المعرفي أو المباني والطرق والمنشاءات وإنما يتعدى ذلك بكثير؛ بل هو يلامس لُب أهداف قيام الدول العصرية التي تعتني بالإنسان قبل كل شيء، تلك التنمية المستدامة التي تجعل من كل العناصر ذات قابلية تفاعلية للمضي قدمًا وفق ما يقدمه العالم والعلم من متغيرات.

إنَّنا لا نبالغ إذا قلنا إن منظومة التعليم هي "ترمومتر" التقدم والتطور، ومن أجل أن نصل بتعليمنا إلى مرحلة قيادة منظومة التنمية، علينا أن نرتقي بتعليمنا إلى مستوى أعلى، وأن نُعالج التحديات التي تواجهه، وأن نُعيد مراجعة السياسات التعليمية خاصة وأننا على أعتاب بداية الربع الثاني من رؤية "عُمان 2040"، والتي وضعت مؤشرات لقياس مدى تحقيق مستهدفات أولوية التعليم؛ أراها عالية تحقق طموح القيادة، لكنها تحتاج إلى عمل وجهد كبيرين.

كما إن عامل الزمن أصبح هو الآخر تحديًا كبيرًا، يجب الانتباه له، حتى لا تتكرر الأخطاء، ونجد أنفسنا وقد أدركنا الوقت ولم نصل لوجهتنا.

من أجل ذلك، وجب على المسؤولين عن التعليم والمؤسسات العلمية مراجعة أثر التعليم على التنمية؛ بُغية الوصول إلى تقييم واقعي حول التعليم وسيمياء التنمية. والله من وراء القصد.

تعليق عبر الفيس بوك