فاطمة الحارثية
هل يوجد فارق بين العقلية المنجزة والعقلية العاملة؟ أغلب النَّاس قد يرون أن العمل هو بحد ذاته إنجاز، وآخرون قد يرون أن العمل جزء من الإنجاز، لكن قد يحدث ويكون ثمة الكثير من العمل لكن بسبب نقص الهدف لا يحدث الإنجاز.. إذن الإنجاز هو المعيار الحقيقي لقياس فعل العمل والأداء.
نقصد بالإنجاز الحصاد ونتائج الجهد المبذول لنيل هدف أو غاية؛ يقاس في أروقة المدارس بالنجاح والدرجات الأكاديمية، بينما في زخم الأعمال بالأثر والعوائد المختلفة، وهذا يؤكد أهمية "مادية" الهدف وأن يكون حول أمر ملموس. وأعتقد أنه عند إسقاط فكر ومفهوم الربحية والتحول إلى النفعية، أي من مؤسسات ربحية إلى مؤسسات نفعية، سوف نلمس الأثر والعوائد التي نصبوا إليها، ونكتسب مرونة تسمح لنا بالنمو والاستدامة والتغيير السلس؛ وهذا يُبين للباحث أثر مرادفات الكلمة ووقعها على الإنجاز والتعمير، فعند تكرار الكثير من المؤسسات أنها ربحية، يُوحي ذلك لدى المتلقي بشعور ممزوج بالطبقية، بالرغم من أن بعض المؤسسات تشارك أرباحها موظفيها، أي قائمة على عموم المنفعة لجميع الأطراف.
لن أطيل في ذلك، لأنني أعلم أنَّ الكثير من الأغِراء لن يتفقوا معي، فذواتهم الشابة تتلمس العلو لا البقاء، والنتائج السريعة لا المستدامة، فالأنا حاضرة بقوة، وفي ذلك جمال ونشوة لأصحاب الخبرة، والباع الطويل والحكمة إن صح لي قول ذلك. فالمعايير التي يتمسك بها الشباب بقوة، تعتبر مقاييس نسبية مساعدة لأصحاب الخبرة، وقد تتفاضل أو تتناقض باختلاف القائم عليها، وإن كانت النتائج هي الحكم، تبقى الاعتبارات التي قد يراها من سنّها أنها على صواب، ويراها غيره تمييزاً ومحاباة؛ وإن كان لديك فضول لتستعلم عن رأيي، أرى أنها هي عدالة بميزان البشر، ولست حقًا أعلم عن غيبه.
إن العلاقات التي تنشأ بحكم المناصب نجاحها يكمن في الصفقات المُنجزة والأداء السلس، وإلا فما ارتباطها الفعلي وأهميتها؟ على سبيل المثال، إن لم تكن تعمل لدى المؤسسة التي تخدم فيها، فهل كانت الأطراف الأخرى جانبت ذات الاهتمام والتقدير الذي تناله منهم حالياً؟، وإن لم تكن المؤسسة منحتك الصفة التي أنت عليها الآن فهل كان لكثير من الأبواب أن تُفتح لك؟ أذكر قول أحد القادة لي "فاطمة: السلطة أقوى وألذ من الراتب الوظيفي"، وأذكر زميلة لي كانت تصارع من أجل نيل منصب قيادي، وكان الأمر مُرهقاً لها، فسألتها:
- هل يستحق كل هذا الجهد والألم؟
- قالت: إن لم أنل المنصب لن أستطيع أن أفعل ما أريد وأصنع القرار وأغير.
- قلت لها: وهل ما تريدينه هو الصواب؟ هل قرارك هو الأنسب والأكثر نفعاً للمؤسسة والموظفين؟
- نظرت إليّ مطولا، وقالت لا أحد يمتلك مقياس الصواب والخطأ أقلها لن أذل.
الجميع يرى الأمور من زاويته، ومفهومه ومعتقده، والغالب هم من يسعون نحو مصالحهم الشخصية، والقلة من يجتهد للصالح العام، ولنتفق أن الصالح العام ليست مثالية، بل هذا السعي أقرب إلى الإقرار بأن الحياة لن تدوم والرزق لن يزيد بزيادة الاجتهاد، لكنهم يُدركون يقينًا أهمية البركة لا الكم.
القبول ليس أمرًا يسيرًا، لكن هو ما يتظاهر به الجميع، ليحافظوا على سلامة ورتابة الحياة؛ عقلية الإنجاز تحتم الصبر وعدم استعجال النتائج، لأنها تحافظ وتركز على الهدف مع مرونة في الأداء، بينما عقلية العمل تحمل الكثير من الفوضى، والمخاطر وتحتفل قبل أن تصل وتسترخي قبل الانتهاء؛ مع الكم الهائل الذي نستورده من مقاييس صنعها غيرنا من شركات الاستشارات ودور الخبرة، نجد أننا نأخذ بقواعدهم ومعاييرهم دون الاكتراث بتفاوت الثقافات والبيئة، والأهم من ذلك اختلاف اللوائح والأنظمة والسياسات المهنية بيننا وبين الغرب، الذي نستورد منه ثم نتذمر عند الإخفاق، زد على ذلك التباين في جودة التعليم ونوعية المخرجات الأكاديمية والتقنية، إننا في أشد الحاجة إلى صناعة عقلية النمو، والانسجام مع التطوير والتغيير بتجانس وقبول، وللأسف إلى يومنا هذا نسمع الكثير من الجلبة والضوضاء عند أول خطوة للتغيير، ربما علينا أن نصمت قليلاً وندمج التغيير مع سياسة الأداء السنوي، دون الإشهار بأنه حان الوقت لتغيير، ربما سيقبل الناس أنه جزء من التجديد والتحسين المستمر وليس إزعاجا ومعيقا للاستمرار.
هل تتفق معي أن تعظيم النفس قيد، يُغيب عنَّا الكثير من المعرفة والبحث العلمي؟ وهو عائق أساسي في عملية التطور والنمو؟ أما آن لنا أن نحترم المجتهد، ونُعطيه المساحة التي يحتاجها لينفع ويُساهم دون الخوف من فكره وعزيمته؟
سمو...
سنغادر الحياة الدنيا عاجلًا أم آجلًا، فهوِّن عليك نفسك، وارحمها كي ترحمك. مارس حب الذات وصحة الروح، لا تضع جُل علمك وجهدك لجسدٍ فانٍ، وشهوة مُتغيرة، ولا تنغمس في أوهام مستوردة، وعلوم لا تُطعم ولا تُغني من جوع، ولا تصنع لك ظلًا.