ماجد المرهون
للعظماء صفات نبل يعرفون بها، هامتها العدل وغرتها نصرة المظلوم وأطرافها مقت الشطط ورفع الضيم، وقد نجد عظيم قوم عند قوم وضيع لئيم بسبب تضارب المصالح وتعارض القناعات وتعقد المطالب وتداخل المظالم، فلم تكن إنجلترا عظمى بالنسبة لفرنسا طرفة عين وكانت تحط من شأنها إبان حرب المائة عام، كما إن ريتشارد الأول كان وضيعًا في نظر ليوبولد الخامس دوق النمسا، الذي سجنه في قلعة دورشتاين ليزيده ذلًا وهوانًا، بينما تلقبه إنجلترا بقلب الأسد وتَنصب لشجاعته وبطولته المشبوهة في ويستمنستر أنصابا وأصنام.
ولذلك يحكم مفهوم العظمة من مكان لآخر الكثير من الظروف والأحداث والنتائج والميول العاطفية والعقائدية، ولاشك أن السفاحان جنكيزخان وحفيده هولاكو عظيمان عند قومهم لقتلهم مئات آلاف الأبرياء جلهم يدينون بالإسلام وعلى شاكلتهم قادة الصهيونية وصناع الأكاذيب والأوهام؛ ويبقى العظيم الحقيقي هو من يتفق كل الناس عليه ويقفون على قدم سواء شهادة بعظمته حتى أعداءه ممن أجبرهم كبرهم وغرورهم على الإسرار بذلك إزاء الجهر به.
قد يعتقد الإنسان في مرحلة من مراحل قوته وأنفته أنه يمتلك حقيقة مطلقة حول كل أو معظم الشؤون المحيطة به وهذا الإطلاق النسبي هو سفهٌ أصولي مركب لا يخلو من شوائب غرور العظمة؛ ويبدأ بجهل حقيقة نفسه الواقعة في غرر إختلاق معرفي شامل والتوهم بحقيقة الدراية التامة بكل الشؤون وإن توفرت ممكنات المعرفة ومعطيات المعلومة، حتى إذا تكشفت على نفسه حقيقة جهلِها ناصب فوات الأوان بالحسرة وأصلاح ما أفسده طغواه بالندم، وربما يعمد البعض الوصول بذلك الإطلاق النسبي إلى الهيمنة وهي ضرب من ضروب الخيال ومخدوع من يقع في حبائل تصديقها لعدم وجود إحاطة معرفية كاملة وهيمنة مطلقة قادرة على إصلاح كل ضرر وحائلة دون حدوث أي خلل.
لعل بعض الدول ممن تسمى بالعظمى قد أوقعها حسن ظنها بنفسها في سوء تقديرها لغيرها من خلال إطلاقياتها النسبية حين آنست معرفتها التامة بكل شيء مع جنون إرادتها للهيمنة، وهما إستدعاءان يهدفان إلى التحكم الشامل بقرار وإرادة الدول الأخرى وبالطبع شعوبها المنضوية تحتها، كما فعلت بعض الدول الأوروبية العريقة في الاستعمار (الاستخراب) مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وماتفعله أمريكا اليوم، حتى باتت تعتقد في مرحلة من مراحل غلوها وسطوتها بأنه حق أصيل مكتسب بجهد وجدارة واستعظمت نفسها مع وضوح شوائب اللوث الأخلاقي والإنساني والثقافي الداحظة للمعنى الحقيقي للعظمة.
لقد اقتربت الدول الغربية في القرن الماضي وما قبله كثيرًا من تحقيق تلك المفاهيم بعد إنتهاك كل المعقولات والمقبولات حتى تشكل لديهم وعي نخبوي يسبغ نوع من الأمنة على اعتقادهم نتيجة تقدمهم المتسارع بعد الثورة الصناعية وما حققوه من مكاسب جغرافية لما وراء البحار حسب المصطلح الفرنسي، إلّا أن الواقع لايعمل بتلك المفاهيم لا سيما المنهجية الثقافية الوطيدة للشعوب المغلوب على أمر صناع قرارها وليس على أمرها.
وتغلغل اعتناق سيطرة الدول العظمى في إحاطتها المعرفية بكل شؤون الدول الأخرى وفرض هيمنتها إلى الوعي الثقافي لدى الكثير من المفكرين والمؤثرين حول العالم وخصوصًا العربي؛ حيث نجد تحليلاتهم مبنية على محاباة الاستسلام والخنوع من جهة ونبرة الضعف وإرادة التحدي المهزوم مقدما من جهة أخرى وهو خير ما يسعى المحتل لتأصيله، حتى وإن كان تزييف ماكر مؤقت، وغالبا لا يحقق معه نجاحا ساحقا كما يحققه في قتل المدنيين العزَّل؛ إذ إنَّ الإنسان العربي بشكل عام يستند على قاعدة ثقافية صلبة جدًا لا يمكن إذابتها ببساطة في ثقافات أخرى وإزدادت صلابة بالعقيدة الإيمانية التي تسلم بالعظمة المطلقة للخالق، وهو ما يفسر كل انتفاضات التحرير والاستقلال الشعبية السابقة التي تحطمت على جدارها أصنام المحتل واعتقاداته الزائفة.
ولا جَرم أن الدول التي تسمي نفسها بالعظمى قد تبنت عظمتها مما تأتى لها من مكنة علمية وعسكرية واستحقت التعظيم في نظر نفسها وشعوبها، ولكن في عمق المفهوم العام هي ليست كذلك؛ إذ لا تتحلى بصفات العظماء ولا تتخلق بأخلاقهم وغالبًا ما نجدها تميل عن العدل ميلًا كبيرًا في نصرة الظالم على المظلوم وتتلبس بأزياء الحق وهي باغية حد الثمالة في أكل حقوق غيرها من الدول المستضعفة، وعليه فإنها دول مستعظمة أكثر منها عظمى وتاريخها الإستعماري الأسود يعضد هذا القول.
عندما تكالبت "الدول العظمى" وكشرت عن أنيابها وضربت على كل معاني العظمة أطنابها لإقامة كيان مقلد مطوق بتلابيبها ولا يختلف من حيث المبدأ والشكل والمضمون كثيرًا عنها، لكنه بلا وطن ولا مرجعية وطنية باسم إسرائيل بعد الإجتماع الصهيوني الأول للمهزلة في مدينة بازل السوسيرية عمدت إلى إستصدار القوانين الذرائعية لحمايته لاحقًا باسم الشرعية الدولية المُهلهلة، ثم الشروع بفلسطين كمنطلق تحت اعتقاد الإطلاقية النسبية في الإحاطة المعرفية التامة بوشائج السكان وموائمة الزمان وطبيعة المكان الذي يبدو لطيفًا وادعًا غني الموارد ومُتشربًا بالعطف والحنان، فضلًا عن المسحة الدينية التي تتصلب معها كل تبريرات الإحتلال الهُلامية وهي المطية التي ركبها الهاربون من بطش الدولة البيزنطية وأصحاب التيه المشتتين في الخزر، والمنبوذون من روسيا القيصرية إلى أوروبا الشرقية، والمستوطنون الأوائل من الذين أسقطت أسمائهم عمدًا من سجلات ألمانيا المدنية تحت ذريعة المحرقة لتظهر لاحقا في فلسطين الدامية بعد اعتراف هاري ترومان بإسرائيل أثناء مرحلة خيم فيها الجهل السياسي على العالم العربي أو شبه فراغ ساد السلطة القيادية كأقرب تشبيه.
لئن يستصغر المرءُ مكرهًا وهو على حق وهدى، خير من أن يستعظم مخيرًا وهو على باطل وضلال، ولا عظمة مطلقة لأحد ولا لشيء إلّا لله وحده وكل ما هو دونه، إنما استعظم لشأن معلوم أو عظِّم لمنزلة عند قوم، وسيبقى كذلك إلى أمد زمني مقسوم وحد جغرافي محسوم؛ وإن كل زيادة في الحد يتبعه نقص في المحدود والعكس صحيح ما لم تتوقف الزيادة عند حد وتتحدد الحدود؛ سواء بلغة التفاهم وهو خير دون مِنّة من أحد ولا تصليد أو الشر الذي لا بُد منه في لغة النار والحديد، وهو الجدار الأخير الذي اصطدمت به إرادة الهيمنة لكل دول الاحتلال العظمى عندما فاقت أطماعها كل حد وتجاوزت مطامحها الحدود وهو نفس ما تواجهه الدويلة المستعظمة باسم إسرائيل اليوم مع الإرادة الشعبية العظيمة للسكان الأصليين، والتي لم تتمكن كل القوى الباغية من اختراق وعيهم الثقافي السميك ولا كسر أعمدة حضارتهم العريقة ولا قواعد دينهم القويم.