غزة وفنون الإتيكيت

 

هند الحمدانية

تعيش غزة منذ حوالي 64 يومًا ظروفًا حياتيةً استثنائيةً قاسية يشهدها العالم أجمع، وسلّطت الأضواء عالميًا على هذا القطاع المحاصر وعلى ظروف أهاليه وشبابه وأطفاله وتفاصيل حياتهم وتعاملاتهم، ولأن غزة اليوم تقابل كل شعوب العالم على شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمقروءة، فاقتضى الأمر منَّا أن نشير إلى فنون الإتيكيت وقواعد الآداب التي أتقنها الغزاوي خلال ممارساته الميدانية والحياتية اليومية والتي استخدم فيها أفضل السبل، وأكثرها جمالًا، ورقيًا، وتهذيبًا.

هذا المقال هو بمثابة "Ticket" بطاقة دخول إلى المجتمع الغزاوي الراقي، هنا سنعيش معًا فنون الإتيكيت والذوقيات الفخمة التي تتعامل بها غزة وأهلها مع أرواحهم أولا ثم مع الآخرين والعالم أجمع.

يقول الله تعالى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم): "وإنك لعلى خلق عظيم"، ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فيقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، من هنا بدأت بذور ممارسات آداب الإتيكيت الحياتية والتي تدور في فلك مكارم الأخلاق والتي يجب أن تتجذر في الفطرة الإنسانية السليمة والعلاقات بين أفراد المجتمع.

ولقد لاحظنا جميعًا خلال الشهرين المنصرمين أن غزة كانت أيقونةً عالمية جاذبة لفنون الإتيكيت والخصال الحميدة ونموذجا مذهلا للدراسة والاقتداء، فترافق فيها مفهوم الإتيكيت مع البساطة والرقي والابتسامة والجمال والعفوية وحسن الظن بالله.

"إتيكيت الروح".. كيف يتعامل الغزاوي مع روحه الطاهرة، كيف ترفع بها عن ملذات الدنيا، كيف رقاها بآيات كتاب الله ثم كرمها في سبيله، كيف أنصت لنفسه وأعطاها الاهتمام المطلق في التساؤل والاستفسار: إلى متى هذا الذل وهذا العار؟ ومن ثم أجابها بحب ورقي: لن يدوم لأننا نقاوم، فإما النصر أو الشهادة، علمتنا غزة أن الإتيكيت يبدأ من الروح ثم يمتد بعدها ليشمل كل تعاملات الحياة الأخرى.

انعدمت الأسباب.. شح الماء والطعام والدواء وكل سبل الحياة الكريمة، والنازحون من أهالي غزة تحت القصف بدون مأوى آمن وبدون غطاء، لكنهم يتسلحون بالإيمان والخلق القويم، فلا سرقات رغم الفقر والجوع، ولم نسمع بحالات اعتداء أو تحرش، لم نسمع بعبارات تذمر أو تأفف، كل ما كان وما زال يتردد طيلة أكثر من شهرين "الحمدالله رب العالمين" ويا رب خذ منَّا حتى ترضى، ألا يصنف هذا التعامل من أعلى درجات إتيكيت التعامل مع النفس ومع الآخرين؟!

ذوقيات غزة حققت "ترندًا" عالميا في مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة في التعامل مع الأسرى، والذي بدا واضحًا وجليًا مع عقد الهدنة الإنسانية وبدء تبادل الأسرى؛ حيث انكشف لكل شعوب العالم التعامل الإنساني الراقي والسلوكيات البالغة التهذيب التي أظهرتها حماس للأسرى المحتجزين، والرفق والرحمة التي أحاطوهم بها وطبخ الطعام لهم، واحترام أشخاصهم وشرفهم ومعاملة الأسيرات من النساء مع ما يتناسب مع جنسهن، وتوفير الرعاية الصحية وغيرها وتهيئة ظروف جيدة لهن، وذلك ما أكدته الأسيرة الإسرائيلية المسنة ليفشيتس المفرج عنها: أنهم لم يتعرضوا لأي نوع من العنف أو الإهانة، أبهرتني حماس عندما اهتمت بتفاصيل راحة الأسرى النفسية قبل الجسدية عندما جمعوا ساكني كل مستوطنة من الأسرى مع بعضهم البعض ليشعروا بالراحة والأمان والألفة، ثم ينتشر مقطع الفيديو المُذهل؛ حيث الفتاة الإسرائيلية مايا ريغيف وهي تلوح لمسلح حماسي يقول لها "وداعًا مايا" فترد عليه مبتسمة راضية "شكرا" ،حقيقة ً إن غزة أسست مدرسة إتيكيت من الطراز الرفيع في فنون التعامل مع الأسرى لم تشهده البشرية منذ قرون طويلة.

"إتيكيت الإعلام الحربي".. المصداقية والشفافية في نقل الأحداث، أصول الصورة والتحرير والإعداد وفن التعامل والكاريزما والكلمة رغم صعوبة الظرف، دروس قيمة في الإتيكيت الإعلامي نستخلصها لكم في عدة نقاط، اختيار الوقت المناسب لإيصال المعلومة وبثها، واستخدام كلمات سحرية تبقى في ذهن المتابع المترقب (لا سمح الله)، لغة جسد ثابتة ونبرة صوت واثقة وكلمات صادقة، ولذلك آمنت وانبهرت كل شعوب العالم بمصداقية الرجل الملثم وشجاعته وذكاءه وإقدامه، فما أجمل أبو عبيدة! المقاوم المحترم الذكي المغوار الذي امتاز بثقة فخمة ممزوجة بعزة وكرامة، لا يتحدث كل يوم، لكنه إذا تحدث أسكت القوم.

فأهلًا وسهلًا بكم وبكل شعوب العالم العربي والغربي في مدرسة الإتيكيت الغزاوية وإلى البلاط الملكي الغزاوي الشريف الذي غسل بدماء الشهداء وطرز بالعفة والنقاء، ففاحت منه ريح الطيب والمسك والجنة وتزاحمت بين شرفاته الملائكة حاملةً الأجنة، أهلا بكم جميعًا من السابع من أكتوبر وإلى أن يتحرر الأقصى ونُكبِّر.

تعليق عبر الفيس بوك