من "المسافة صفر"

 

د. سليمان المحذوري

abualazher@gmail.com

 

دخل العدوان الإسرائيلي على غزة وأهلها يومه الخامس والأربعين اعتدت فيه إسرائيل على الحجر والشجر متبعة سياسة الأرض المحروقة. وارتكبت خلاله مجازر وإبادة جماعية يشيب لها الولدان بحق الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وراح ضحيته أكثر من ثلاثة عشر ألف شهيد حتى اللحظة ناهيكم عن الأعداد الكبيرة من الجرحى والمصابين والمهجّرين قسرًا.

كل هذه الأهوال ما كانت لتحدث لولا تآمر دولي، وتخاذل عربي وللأسف الشديد، ورغم شدة الألم والحسرة كما يقول الشاعر عمر أبو ريشة وطني هل لك منبر للسيف أو للقلم.. أتلقاك وطرفي مطرق خجلًا من أمس المنصرم؛ بيد أنّ صمود غزة، وبسالة مقاتليها، وصبر شعبها ما زال يعطينا جرعات أمل نتشبث بها.

فمن المسافة صفر انقضّ فدائيو غزة على عدوهم بشجاعة مُنقطعة النظير، وبسالة فائقة انطلاقًا من قوة إيمانهم بعدالة قضيتهم، وحقهم في أرضهم السليبة. ومن المسافة صفر تكّشفت الأقنعة الزائفة، وبانت الوجوه على حقيقتها. ومن المسافة صفر ظهر النفاق الدولي على أصوله، ومن المسافة صفر عرفت الدول حقيقة المنظمات الدولية ودورها المشبوه في تكريس الهيمنة والغطرسة الغربية على الدول المستضعفة. ومن المسافة صفر زالت الغشاوة عن الشعارات الزائفة التي تتغنى بحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل ونحوها؛ فما هي إلا وسائل خبيثة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وتركيعها. ومن المسافة صفر استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي توصيل عدالة الحق الفلسطيني إلى كل شبر في هذا الكوكب مما ساهم في إيقاظ الضمير الإنساني شرقًا وغربًا . ومن المسافة صفر كُشف التضليل والأكاذيب التي تروجها الآلة الإعلامية الإسرائيلية ومن لف لفهم. ومن المسافة صفر تبين أنّ القانون الدولي لا يُطبق إلا على الضعيف فقط، وأنّ قانون الغاب هو السائد، وأنّ ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين هي الكفّة الراجحة في الصراعات الدولية. ومن المسافة صفر كشّرت الدول الكبرى عن أنيابها عندما هُددت مصالحها، وأثبتت أنّ لغة القوة هي العامل الحاسم في علو كعبها مهما كانت النتائج.

ومن المسافة صفر أصبحت الرؤية واضحة أنّ التكتل العربي هو الحل الناجع لكل أزماتنا، وحتى لا نؤكل يوم أكل الثور الأبيض ولات حين مندم؛ فالذئب لا يُؤمن غدره ولا تُرجى صداقته. ومن المسافة صفر نقول لا خير فيمن لا يتضامن مع قضايا أمته. ومن المسافة صفر اتضح للفلسطينيين من هو الصديق الذي يُعتمد عليه، ومن هو العدو الذي ينبغي تجنبه، ومن هو المُنافق الذي ينبغي الحذر منه. ومن المسافة صفر نستطيع القول وبثقة إنّ الحق لا يضيع بإذن الله، ولن تذهب الدماء الزكية هدرًا، وإنّ هذه المعركة هي لبنة صلبة في بناء التحرير لطرد المستعمر الغاشم طال الزمان أو قصر. ومن المسافة صفر ها هي غزة تزداد قوة وصلابة، وتُثبت أنّ الكرامة والعزة والأنفة هي أثمن ما يملكه الفلسطينيون، وفي هذا الصدد عبّر الشاعر العربي عنترة بن شداد عن ذلك بقوله: لا تسقني ماء الحياة بذلة // بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل.