دلالات زيارة البرهان للسعودية

 

 

 د.هبة بت عريض

 

 

فتحت زيارة رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق عبد الفتاح البرهان للسعودية صفحة جديدة للعلاقة بين البلدين الشقيقين، وعكست سلوكا إيجابيا على مستوى الرأي العام السوداني، سيما وأن المملكة ظلت متربعة في قلوب السودانيين، لقد حملت الزيارة وإن كانت تحت عنوان (القمة العربية الأفريقية) دلائل إيجابية على ضوء الحفاوة والترحيب الذي وجده الوفد .

 

ويبدو أن هذه الزيارة يمكن استيعاب نتائجها في إطار إعادة التموضع الذي تشهده السعودية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، وهو مبني على قراءة أكثر احترافية وموضوعية للتطورات والمعطيات الإقليمية والدولية، حيث تدرك السعودية حالة تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة الأميركية، وازدياد تركيز اهتماماتها على شاطئ المحيط الهادي، وعدم جديتها الكافية في حماية مصالح حلفائها وأمنهم في الشرق الأوسط، كما تدرك حقيقة الصعود الصيني، واتجاه العالم تدريجياً نحو منظومة متعددة الأقطاب، فضلا عن رغبة قوى عالمية كروسيا والهند في تثبيت مكانتهما الدولية، والانعتاق من هيمنة (الدولار)، كما تدرك السعودية صعوبة حل مشاكلها الإقليمية دون التفاهم مع القوى الإقليمية الصاعدة كإيران وتركيا، وأن أمن السعودية والخروج من المأزق اليمني بحاجة إلى هكذا تفاهمات .

 

من ناحية أخرى، فإن فشل وقف إطلاق النار في السودان، والرفض الشعبي المستمر للمبادرة الأمريكيه السعودية (منبر جدة)، بسبب تعنت مليشيا الدعم السريع المتمردة وعدم التزامها بالخروج من منازل المواطنين والأعيان الحكومية، مما أجبر المواطن السوداني على دفع ثمن الحرب تشريداً ونزوحاً واغتصابا للحرائر ودون ذلك من إذلال وتهجير قسري، بالإضافة إلى أن المليشيا أثبتت أنها لا تصلح شريكاً يُعتمد عليه في أمن السودان، وأن أجندتها العنصرية والعدوانية تُعمق الرفض الشعبي لها، وتجعلها عبئاً ثقيلاً على أي علاقة تشاركيه أو رسمية .

 

ثم إن جنوح نهج هذه المليشيا إلى مزيد من التطرف العدواني والعنصري، إضافة إلى أن حربها لجلب الديمقراطيه كذبا حولتها إلى حرب ضد المواطن المغلوب على أمره، الذي وجد نفسه في أتون حرب موغلة في التطرف لم تشهد في كل تاريخ الوطن .

 

 كل ذلك يجعل الموقف السعودي أكثر تحفظاً تجاه أي علاقة محتملة مع المليشيا، وأكثر رغبة في الانفتاح على الحكومة الفاعلة المتمثلة في مجلس السيادة والقوات المسلحة السودانية.

 

ولعل المملكة العربية السعودية من ناحية أخرى، لاحظت أن الشعب السوداني يدعم جيشه ويقف خلفه، بدليل الاستنفار الذي أعلنه القائد العام للقوات المسلحة، وتلبية الشعب لنداء القائد تحت شعار (شعب واحد جيش واحد)، كما أن انتهاكات المليشيا انعكست سلباً على شعبيتها محلياً وعالمياً، وأن الجيش ما زال يتصدر استطلاعات الرأي، ويحظي بقبول وتأييد شعبي كبير، وهي شعبية تتزايد مع زخم العمل والأداء العسكري المقاوم على الأرض، وليس بالتجاوب مع المبادرات المطروحة إقليميا وعربيا ودوليا .

 

ولعل السعودية لاحظت أن الجيش بسبب ضغوط عدد من دول الجوار له، صار أكثر اعتماداً على الدعم الحربي من تركيا ومصر وأخيراً إيران، مع احتفاظه باستقلاليته، وأن على السعودية وعلى البلدان العربية، إن كانت جادة في مساعدته لإنهاء الحرب يتعين عليها أن تكون أكثر انفتاحاً عليه لا حياديا ولا ضده، وفي قضية امست لاتقبل انصاف الحلول .

 

ولذلك، بات من الواضح بالنسبة للسعودية والبلدان العربية استحالة تجاهل حرب السودان والاكتفاء بالدعم والمنح فقط، خصوصاً وأن المملكة العربية السعودية تعد قوة صاعدة مرشحة لقيادة الشرق الاوسط في منظومة (توازن القوي)، بالشرق الأوسط.

 

ثم إن السعودية وبالرغم مما تعرضت له من هجمات إعلامية من بعض الإعلاميين والنشطاء السودانيين، تحمّلتها بصبر، ولم تبادر بأي ردود أو هجمات إعلامية مضادة، ومالت للتهدئة وقامت بواجبها تجاه الشعب السوداني، بتقديم كل أنواع الإعانات والمنح، وكانت سباقة في فعل الخيرات، بل انها في مقدمة الدول المانحة، مما أسهم في تحجيم الاحتقان إلى حدّه الأدنى، وإلغاء مبررات العداء، وتسهيل العودة إلى الإعلام الإيجابي عبر تفعيل العلاقات الثنائية مما سيوفر بيئة أفضل لاستعادتها لدورها المهم ومكانتها في الملف السوداني، وفي إطار عودة طبيعية للسياسة السعودية التقليدية المنفتحة على الحكومة السودانية، وذلك سيوفر بيئة أفضل للدعم الشعبي والرسمي السعودي للشعب السوداني وتخفيف معاناته، ليس فقط في الحرب الحالية، وإنما أيضاً في مرحلة ما بعد الحرب وهي الأهم .

 

 من ناحية أخري فإن زيارة البرهان للسعوديه برهنت على علاقة السودان القوية بالمملكه التي استطاعت عبر قراءتها الموضوعية لمجمل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية، من الانفتاح ايضا على الصين وروسيا، والاتفاق مع إيران، ومحاولة تسهيل الوصول إلى حلٍّ سياسي في السودان يتسق وتطلعات الشعب، ومثل هكذا سياسة لا يمكن أن تتجاهل أهم فاعل في شرق ووسط افريقيا، او بالأحري منطقة الشواطيء الغربية للبحر الأحمر التي تمثل أهمية قصوي للفاعلين الكبار .

 

وبالطبع، فإن (الكُوَّة) التي فتحتها السعودية من خلال هذه الزيارة، يجب النظر اليها في إطارها وحجمها المحدود، ولا ينبغي تعليق آمالا كبيرة عليها قبل أن تنضج ظروف تطورها الطبيعي، ولعل رسالة السعودية كانت واضحة، من خلال استقبالها للبرهان بحفاوة .

 

السيناريوهات المحتمله

 

نحن أمام ثلاثة سيناريوهات في المستقبل القريب والوسيط لعلاقة الرياض بالخرطوم :

 

الأول : الإتجاه نحو تخفيف الإحتقان الإعلامي وإنهاء التوتر ووقف الحملات الإعلامية المتبادلة، مع الإبقاء على علاقة فعليه متماسكة .

 

الثاني : الانفتاح المحسوب، عبر علاقة حميمية وتفعيلها من خلال الأطر الاقتصادية وتبني سياسات استثماريه أكثر تفهّماً لظروف السودان الحاليه، ومحاولة وجود حلول بديلة لوقف إطلاق النار تحقق تطلعات الشعب .

 

الثالث : بالإضافة إلى الإجراءات المشار إليها في السيناريو الثاني، يتم تطوير العلاقات إلى المستوى السياسي بالتواصل المباشر المنفتح مع الجيش والقوي السياسية الاخري، وغضّ الطَّرف عن الخلافات الجذريه بينها .

 

ولعل السيناريو الثاني هو الأقرب للتحقيق، وهو الاتجاه نحو انفتاح حذر متدرج محسوب، يتناسب مع الرؤية السعودية الجديدة، وتحنب إستعداء الأميركان ودون أن يتسبّب ذلك في ضغوط غربية لا ترغب القيادة السعودية في مواجهتها في هذه المرحلة .

 

وكُلُّ امرئ يُولي الجَمِيلَ محببًا، وكُلّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيبُ.

تعليق عبر الفيس بوك