"طوفان الأقصى" بين البداية والنهاية

 

سعيد بن أسلم الشحري

 

الحق أنني كنت رهينًا لوطأة ما حدث ويحدث الى هذه اللحظة في غزة؛ فالحيرة لم تكن حيرتي فحسب؛ بل تقاسمتها مع كل مواطن عربي مسلم شاهد ما يدور في غزة واحاديث سارت بها الركبان، فلقد اخذنا هول ما حدث عن تفسير احداثه وملابساته وإن كانت جرائم الكيان الصهيوني وسيناريوهاتها المتكررة جعلت المقدمات أصدق صورة للنهايات. لكننا ترفض في كثير من الأحيان ما وراء الاحداث ليس تكذيبا، بل خيبة الامل كانت اشد قسوة فيمن تخلى عن سيادة قراراته خوفا من تبعات ممارسة مسؤولياته على الارض.

لا شك أن أحداث غزة الحالية ليست طلاسما تحتاج إلى تفسير أو أزمة سياسية تفاقمت فنتج عنها صدام عسكري واستحال على الناس معرفة ما كان وما ينبغي أن يكون؛ بل نحن امام اعدل قضية إنسانية عرفها العصر الحديث، قضية كانت ضحية قوة امبريالية ملكت المال والقوة وعاثت بملامح الجغرافيا والتاريخ فأعطت من لا يملك لمن لا يستحق؛ بل قل إن شئت من شعب يملك 96% من أرضه قبل نكبة 1948 لحاله الآن وهو لا تتعدى ملكيته 12% من فلسطين التاريخية، شعب تكالبت عليه حثالة العالم وراء الحركة الصهيونية بحثا عن وطن بديل، فأخذ نصيبه من المجازر والتهجير القسري وافراغ مطالبه من قضية تبحث عن عدالة وضمير العالم الحر الى شعب يعيش بين سندان الاحتلال وتوسعه ومطرقة القوى الغربية وأمريكا التي زرعت هذا الكيان لخدمة مصالحها الجيوسياسية.

هل كانت عملية طوفان الأقصى صرخة في وجه الاحتلال ليفيق من غطرسته فحسب أم رسالة لدعاة السلام الذي لا يعيش إلا في كنف القوة؛ فالاحتياج في السياسة يجب أن يكون متوازنًا بين طرفين الأول يمتلك شريعة الأرض والتاريخ ومحكوم عليه أن يواجه مصيرا مجهولا من الحصار والدم أو أن يذعن لاحتلال طلباته لا تعرف الحدود فالفجوة قائمة بين حاضر مرتبك خيارات الصراع فيه أقرب من فرص السلام وبين غد تضع ملامحه وخطوطه وحركته قوة تقودها عقيدتها الدينية.

ففي سفر التكوين نذكر ملمحا على كيف يأتمر قادة إسرائيل أحيانا لمرجعيتهم الدينية المحرفة لتحقيق مكاسب تاريخية واقتصادية حتى لوكان ذلك مبنيا على الاعتداء على كيانات سياسية قائمة وخرائط حدود لا يعترفون بها "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبراهيم ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير وهو الفرات". إنهم يتكلمون ولم يكفوا حتى اللحظة عن الكلام عن حدود إسرائيل الكبرى وهي تلتهم عطفا على النص الذي سبق ذكره الضفة الغربية وقطاع غزة وكل الأراضي المحتلة عام 1948 ومرتفعات الجولان .

إنها ليست أسطورة من نسج الخيال فتُرفض؛ بل لبست ثوبا من القداسة الذي يصم آذانه عن كل تأويل سياسي وحوارات تقال في أروقة المحللين فشتان بين أخلاق الصراحة وعقيدة المساومة.

لقد كانت الكثير من وجهات نظر الكتاب والمطلعين على الصراع العربي الإسرائيلي عينها على وقائع احداث تقوم مخلفة شهداء ومجازر وهدم للبنية التحتية وهو مهم أن نكشف مما يحدث وحشية هذا الكيان المحتل ونسوا أن يطلوا مضطرين على التاريخ لأن منطلق السياسة دائما هي الجغرافيا وخلفيتها التاريخ ويظل المستقبل مرهونا بصدق النوايا ومدى القدرة على إصلاح البيت من الداخل وإيجاد مناخ لغد مشرق ودافعا لمزيد من الاستيطان والتوسع لاسيما ومعاهدات التطبيع التي نصبت نفسها كحمامة سلام وصوت للحكمة بدلا من دماء المقاومة والدفاع عن الأرض والعرض لم تستطع أن تمارس دورا مؤثرا بوقف الغارات أو قل إن شئت تقنع الشارع العربي بأن التطبيع الأحادي هو الخيار الأمثل لصناعة سلاما شاملا بين قوة غاشمة مدججة بالسلاح، والدعم الغربي غير المشروط وشعب أعزل تقتل أجياله وطفولته ومطلوب منه مع هذا وذاك أن يتلقى الصفعات دون مقاومة ويقدم القرابين لترضى عنه إسرائيل ويسوق الخطى مهما كان الطريق وعرا لمفاوضات سلام كاذبة تخدر العقول بأن الوعد قريبا أو أوشك على الظهور، بل لعله كالبيت المهجور ندخله طائعين ولا نلبث مغادرته خائفين.

 أود أن أضع بين أيديكم تصورات لعلها تَقرأ ولو جزئيا ما يدور في الأفق الذي تلبدت سماؤه بسحب عابرة أحيانا وعواصف ممطرة في أحيان أخرى لكنها لم ترو هضابها الجدباء، أولى هذه التصورات ستظل منطقة الشرق الأوسط طوال الوقت ملتهبة ومشحونة بالتوتر ومسكونة بالشكوك ومعرضة في أي لحظة للمفاجآت مالم يكن هناك سلاما عادلا وشاملا وهو ما يقودنا إلى صناعة مستقبل يفتح الأبواب ويزيل التناقضات وإلا هو الاعتراف بالعجز والتخبط طويلا في الظلام.

يأتي طوفان الأقصى والأمة منقسمة فكريا بين تيارات ذات مرجعيات متباينة تتلقفها أجندة دولية وظفت الداخل قبل أي تدخل خارجي لتنفيذ مخططات التقسيم وإذكاء الصراع بين المكونات الاجتماعية للدول واتساع الفجوة بين الشعب والسلطة لتمرير أوهام الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل كان هناك من يرضيه ذلك الانقسام والعذر الذي استسلم للمقادير، فعندما تكون مصائر الأمم والشعوب في مهب الريح كانت المسؤولية عامة وإلا مقولة المصير المشترك تصبح عبثا لا قيمة لها وسترفضها جماهير الأمة لأن شرعية وجودها باتت محل شك.

التباين الذي وصل لحد الخلاف على لعب دور القيادة ومناطق التأثير عربيا، حتى لو أدى ذلك لتنازلات مؤلمة من الصعوبة تدارك نتائجها على المدى الطويل، بل إدارة الصراع في هذا الملف يزداد تعقيدا لأن القناعات اختلفت والقضايا القومية لم تعد تمثل طموحات الأمة.

المكاسب العسكرية التي حققتها المقاومة أوجعت كبرياء الجيش الذي لا يهزم والدولة التي كما يقول الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل فريدة لأنها لا تتحمل هزيمة واحدة فالهزيمة بالنسبة لها انتهاء المشروع فمتى ما نزع عنها مهابة القوة والقدرة على الردع وإخافة من حولها فذلك تلويح بانتهاء الدولة، حتى لو بقي لها تواجد دون التأثير الذي كانت تلعبه في محيطها.

خيبة الأمل وفقدان مصداقية المنظمات الدولية عن بسط نفوذها على الأرض وحماية المدنيين وإلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي الذي ظلت دائما لا تعترف بشرعيته عندما يخالف مصالحها، بل هو عالم ظل يتفرج طويلا وكأنها حلبة مصارعة ننتظر لنرى المنتصر وهو يستعرض عضلاته وتفيض دموع التماسيح متعاطفة مع الطرف المغلوب ومهما يكن من أمر لقد رأينا قوى متنفذة لا تخمد النار المشتعلة، ولكنها زادت النار اشتعالا وكأن آلة القتل يراد لها أن تستمر دون أن تحسم المعركة بين الطرفين غير المتكافئين.

لم يعد الصمت قادرا على كتمان ما يحدث، فهل نشهد تحولا جذريا بعد عملية طوفان الأقصى على مسيرة القضية الفلسطينية وتضع الحرب أوزارها أم تستمر مسيرة النار والدم حتى تعود الحقوق إلى أصحابها؟

تعليق عبر الفيس بوك