تواطؤ لإقصاء "حماس" عن المشهد الفلسطيني

 

علي بن سالم كفيتان

وفق مجريات الأمور يتضح أنَّ هناك شبه توافق عربي غربي على تصفية حماس وتدجين المُقاومة الفلسطينية؛ فرغم الأحداث المروعة التي تجري في غزة يوجد تواطؤ من عدد من الأنظمة في الطرفين بهدف تحييد حركة حماس من المشهد وإخراجها من المُعادلة السياسية التي تُرسم لمنطقة الشرق الأوسط الجديد، كما حصل لجماعة الإخوان المسلمين وبنفس السيناريو تقريبًا، فكلتا الحركتين تستمدان قوتهما من تيار الإسلام السياسي وتحظيان بتأييد شعبي؛ فحركة حماس فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، والأخوان المسلمون فازوا في أول انتخابات أجريت بعد الإطاحة بالرئيس حسني مُبارك في مصر، وقبل ذلك في تونس بعد رحيل الرئيس زين العابدين بن علي، وفي الجزائر هم متواجدون منذ عقود.

يبدو أن خيار الإسلام السياسي غير مرغوب فيه وفق الرؤية الغربية؛ كونه يمثل خطرًا داهمًا على الفكر العلماني ويؤسس لنهضة إسلامية ستقود العالم لفكر لا يتفق تمامًا مع تسطيح الدين والتنازل عن الأخلاق والفطرة السوية للإنسان. ورغم كل المحاولات لشيطنة حماس والدعاية لمسار أوسلو وقادته، إلّا أن الفلسطينيين دعمّوا بقوة خيار المقاومة والصمود، تاركين خلف ظهورهم خيار الخنوع لدولة مُجزَّأة منزوعة السلاح يعيش رعاياها في كانتونات تحرسها قوات شرطة فلسطينية تُدفع رواتبها من تل أبيب لحماية المحتل وتمرير سياساته الاستيطانية المقيتة في ظل حراسة مُشدَّدة لحدود فلسطين من أصحاب الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني والمطبعين الجُدد، وهذا كله يقود لتصفية حركة حماس في غزة من أجل انفراد أصحاب أوسلو بالمشهد، فبعد تدمير كل شيء سوف يستلمون الركام والخراب ليتم بعد ذلك تنصيب الدمية التي تستجدي الحماية من الغرب ليل نهار من على منابر الأمم المتحدة. والحقيقة الماثلة أمامنا اليوم هي أنَّ الأمم المتحدة أصبحت عبارة عن دكان أمريكي تبيع فيه لمن تريد وتشتري ممن ترضى عنه ويوافق نظرتها وتوجهاتها التعسفية في العالم؛ فهي من صنعت الكيان الصهيوني، وهي من وعدت بدولة فلسطينية، فأوفت للأول وغدرت بالثاني، وما زالت تحول دون ذلك بكل صلف وعنجهية علانيةً، وقد تبين ذلك جليًا مع خروج وزير خارجية أمريكا عن العرف السياسي ونعت نفسه بأنه يهودي جاء لنجدة إسرائيل.

اجتمع العرب والمسلمون مطلع هذا الأسبوع في الرياض، ولم يخرج المجتمعون بشيء غير المناشدات وبيانات الشجب والاستنكار، وعلى ما يبدو أن الاجتماع وُظِّف بشكل كبير لتهدئة الرأي العام العالمي والعربي ويقظة الضمير التي باتت تجتاح دول العالم أمام سلوكيات الصهاينة المدفوعة بالمال والسلاح الأمريكي والتأييد الغربي. فهل سوف تختفي حماس ويخبو صوتها وتصبح جزءًا من التاريخ؟ أم سوف تصمد لفترات أطول وتظل تورِّق الكيان المحتل بتدمير بنيته السكانية عبر هروب ملايين الصهاينة لدول أكثر أمانًا وانهيار اقتصاده. فبعد 40 يومًا من الصمود، يبدو أن إسرائيل المزعومة باتت قاعدة أمريكية متقدمة بلا سكان، وباقتصاد يتهاوى على أزيز رشقات حماس وضربات صواريخ الياسين التي تلتهم الدبابات الصهيونية في أزقة غزة. تبدو الصورة ضبابية ولا يمكننا الحكم مبكرًا على المشهد فالأيام ما زالت حُبلى بالنصر الذي نرجوه والتوجس الذي نخشاه. 

كل من يتوقع أن حماس ستنهار وتذوب في حالة تصفيتها من الداخل فهو واهم؛ فالحركة تمتلك بنية مؤسساتية قوية ودعماً من شركائها في المنطقة الذين تتقاطع مصالحهم في نقطة وقف مشروع الشرق الأوسط الجديد، وخروج المقاومة من الداخل سيُشعلها في الخارج، وهذا ما يجب أن تعيه تمامًا الدول الحارسة للحدود الفلسطينية؛ فهي سوف تصبح ساحات جديدة وانطلاقات متوقعة للكفاح الفلسطيني، ولذلك من مصلحتها العليا دعم نشاطها في الداخل وعدم خنقها كما يحصل اليوم. وأعتقد أن الساسة العرب الذين غادروا المشهد كانوا أكثر حنكة ودهاء من الموجودين اليوم، فهم من استطاع رسم الصورة الحالية، فلولا دعمهم المتكرر واستخدامهم للبطاقة الحمراء في أكثر من مناسبة لما استطاعت المقاومة أن تنمو وتصبح حجر الزاوية، وهم من يعمر بعد كل تدمير ويدفعون الأموال بسخاء لعودة الحياة، ومن هنا دخلت إيران كمنافس تسليحي للمقاومة كنوع من التنافس على المشهد الفلسطيني المحمود مهما اختلفت الغايات.

لا بُد من التذكير أن الحرية يكون ثمنها باهظاً، وهذا يقودنا للتجارب المماثلة ولا نذهب بعيدًا عن وطننا العربي؛ فالجزائر دفعت مليون ونصف المليون شهيد لتنال حريتها من المحتل الفرنسي الذي مارس ضد الجزائريين شتى صنوف التدمير والتعذيب والقتل والتهجير وسلب الهوية، لكن الإرادة لم تمت، فعاد الجزائر ولقَّن الفرنسيين درسًا لم ينسوه، ورسموا صورة مُشرقة للشعوب التوَّاقة للحرية، وكذلك ثورة عمر المختار في ليبيا ضد الإيطاليين، والشعب اليمني ضد بريطانيا، وغيرها من الحركات التحررية في العالم.. كل هذا يقودنا لعدم الجزع والنظر إلى المشهد كونه انتصارًا مؤزرًا على الصهاينة وحسب؛ فمئات الآلاف منهم باتوا يتزاحمون على المطارات للهروب إلى الخارج والاقتصاد الصهيوني يتآكل، والتأييد العالمي مع القضية الفلسطينية يتنامى، وتجلّى ذلك في المسيرات المليونية في شتى بقاع العالم.

ستصمد حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة، وستلقِّن المحتل صنوف العذاب والهزيمة والخيبات، وسيتفاوض الصهاينة خاسئين على إطلاق سراح كافة الأسرى والمعتقلين؛ فدماء الشهداء ستكون مفاتيح لأقفال السجون الصهيونية أمام آلاف المعتقلين الفلسطينيين، وسيُكتب نصر آخر يُضاف الى انتصار السابع من أكتوبر 2023، قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).