"خطاب نصر الله" وسياسة الغموض الاستراتيجي

صالح البلوشي

 

سبق خطاب السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله اللبناني، نشر عدة مقاطع مرئية قصيرة ضمن الإعلان عن موعد الخطاب عصر يوم الجمعة الثالث من نوفمبر، لتحمل هذه المقاطع القصيرة رسائل بأنَّ هذا الخطاب سيكون مُهمًا؛ باعتباره الظهور الأول لـ"نصرالله" منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، ليكون هذا الخطاب محل اهتمام وترقب من أنصار المقاومة والقضية الفلسطينية ودوائر صنع القرار في كثير من العواصم.

لقد اشتمل الخطاب على رسالة ضمنية، مفادها أن الغموض الاستراتيجي الذي اتسم به الخطاب يمثل قوة ردع للاحتلال مثلها مثل سلاح المقاومة.

وشخصيًا لم أتوقع من الخطاب أكثر مما جاء فيه، لعدة أسباب منها: أن قرار الحرب لا يُعْلَن عنه في خطاب بث على الهواء مُباشرة، ولكن إعلان الحرب يكون بالفعل ونهج المُفاجأة والمباغتة للعدو كما حدث في عملية "طوفان الأقصى"؛ حيث اتخذ القرار بسرية تامة، ولم يعلم به حتى الجناح السياسي لحركة حماس؛ لأنه قرار عسكري بحت، ولذلك كنت أستغرب من الذين كانوا يتصورن أنَّ نصر الله كان سيُعلن في خطابه أن صواريخ حزب الله بدأت تدك مدن "إسرائيل" لأن ذلك سيعتبر انتحارًا عسكريًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وذلك ينافي نهج التصعيد المتدرج واحتساب ردة الفعل؛ حيث إن دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة سبقت كلمة نصرالله بإرسال رسائل تحذيرية للحزب من أية محاولة للتصعيد العسكري، ولا أشك أنها استعدت تمامًا لكل مُفاجأة غير متوقعة من الحزب، فعندها ستكون الصواريخ الأمريكية والصهيونية تسبق صواريخ حزب الله في دك معسكرات ومقار الحزب في الجنوب اللبناني قبل أن تتلوها دفعة أخرى تدك المناطق السكنية كما فعلت في غزة.

لذلك.. أرى أن الخطاب كان سياسيًا واستراتيجيًا من الدرجة الأولى وبعيدًا عن العاطفة، كما إنه رسم استراتيجية الحزب في المرحلة المُقبلة حسب التصعيد من جانب الاحتلال الإسرائيلي وفق ما تقتضيه المصلحة الاستراتيجية، ويمكننا القول إنَّ الأمين العام لحزب الله وضع الكرة في منتصف الملعب، ولا تعلم "إسرائيل" أين؟ ومتى سيسددها؟! ليمثل ذلك في حد ذاته عامل ردع تتجلى أبرز نتائجه في توجيه جزء كبير من قوات الاحتلال إلى شمال فلسطين المحتلة ما يخفف الضغط عن جبهة غزة.

ولقد جاء الخطاب في وقت بدأت فيه الولايات المتحدة ممارسة ضغوط سياسية على "إسرائيل" من أجل هدنة إنسانية، نتيجة للضغوط التي يمارسها الرأي العام العالمي عبر المظاهرات الضخمة التي تجتاح العواصم الأوروبية، ووصلت حتى إلى البيت الأبيض ومقر الكونجرس الأمريكي، مع فشل قوات الاحتلال الإسرائيلي في حسم المعركة لصالحها. وهذا الفشل الذريع انعكس على الرأي العام الإسرائيلي الذي يضغط على الحكومة من أجل وقف إطلاق النار والتفاوض مع حماس من أجل إطلاق سراح الأسرى لديها، وعددهم يقارب 240 أسيرًا، ولو دخل الحزب الحرب الشاملة وسط هذه الظروف لقيل إنه يسعى لتخريب المفاوضات وبالتالي يكون هدفا لتحالف دولي سيُشَكَّل للقضاء عليه بحجة أنه يهدد السلام العالمي.

كما إن المتابع لخطاب نصر الله يلاحظ أنه ركز كثيرًا على عدم وجود تنسيق بين حماس وحزب الله وإيران بخصوص ملحمة 7 أكتوبر التاريخية، وأتفهم تمامًا نفي السيد نصر الله، وقبله إيران وجود أي تنسيق لأسباب يعرفها الجميع، فهذه القرارات الأمنية الاستراتيجية لا يُعلن عنها على الهواء مباشرة وأمام الملأ؛ حتى لا تتخذ ذريعة للولايات المتحدة والغرب، ولكن المراقب يتساءل: لماذا بدأت العمليات الحربية بين حزب الله وقوات الاحتلال الإٍسرائيلي في اليوم الثاني مباشرة من عملية "طوفان الأقصى" وهذا يحدث لأول مرة، لأنه في الاعتداءات الإسرائيلية السابقة على غزة لم يكن الحزب يتدخل عسكريًا، وقد أثار نصر الله هذه النقطة في بداية خطابه أن الحزب لا يحتاج إلى إعلان الحرب في هذه الخطبة؛ لأنه دخل الحرب فعليًا في اليوم الثاني من العدوان على غزة.

شخصيًا أتفهم الذين كانوا يتمنون أن يُعلن السيد حسن نصرالله في خطابه الحرب على إسرائيل، وربما هذا التمني جاء نتيجة مواقف الأنظمة العربية والحكومات الإسلامية التي وقفت موقف المتفرج من العدوان، واكتفت ببيانات الإدانة والشجب والتنديد، ولكني لا أتفهم الذين يُزايدون على الحزب الذي دخل المعركة من اليوم الثاني لـ"طوفان الأقصى" وكأن المزايدين أعلم بتفاصيل سير المعركة من الحزب نفسه، كما إنه من المؤسف أنه بعد انتهاء الخطاب مباشرة بدأت عاصفة من الانتقادات تواجه الحزب، لأن بعضًا من الغيورين على المقاومة كانوا يتمنون أن يعلن السيد نصر الله الحرب الشاملة على قوات الاحتلال الإسرائيلي.

بعض المنتقدين وجهّوا انتقاداتهم بطريقة طائفية بغيضة، مما يُثير التساؤلات حول أسباب ظهور هذه النعرات الطائفية في الوقت الذي تواجه فيه المقاومة الإسلامية في فلسطين المحتلة آلة الإجرام الصهيونية، وتساندها أعتى قوة عدوانية على وجه الأرض وهي الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب، مما يؤكد أن دعوات هؤلاء هي مجرد انسياق لأجندات تحاول توريط الحزب في حرب مع الصهاينة، حتى يُتَخَلَّص منه، ومن بقية فصائل المقاومة دفعة واحدة، وكثير من هؤلاء المنتقدين كانوا ينتقدون الحزب في 2006، ويتهمونه بأنه ورط لبنان في حرب مدمرة، وانتقدوا الحزب أيضًا في موقفه من الحرب في سوريا، وما زالت مقالاتهم ومنشوراتهم في وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالألفاظ والكلمات المسيئة للحزب وقيادته، إضافة إلى النعرات الطائفية البغيضة، ولا تزال هناك فئة أيضا تنتقد حماس، وتصفها بأنها ورطة الشعب الفلسطيني في غزة في حملة إبادة صهيونية بدلا من مساندتها والوقوف معها لمواجهة العدوان الغاشم.

وأخيرًا.. إنَّ المزايدات على هذا الخطاب تثبت عدم دراية المُزايدين والمُنتقدين بتكتيكات الحروب واستراتيجيات الأعمال العسكرية، فكل كلمة في وقت الحروب يترتب عليها الكثير من النتائج، ولا شك في أن فصائل المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان لديها خطط متعددة يُلْجَأ إلى كل واحدة منها في وقتها المناسب وبحسب ما تقتضيه مصلحة الجميع.