د. عبدالله باحجاج
في البداية لا بُدَّ من الإشادة بدور السلطات الأمنية في تنظيم المسيرات الاحتجاجية في ولايات السلطنة، وظفار مثالًا، ووفق هذا المثال- الذي كُنّا فيه شاهد عيان- نجحت هذه السلطات في تقديرها للحدث، وما وراءه من سيكولوجيات شبابية غاضبة على مجازر الصهاينة في غزة الباسلة والمنتصرة بإذن الله، وتفاعلت بديناميكية ميدانية في التفاعل الإيجابي مع المسيرة، وسهّلت ونظمت التعبير عن الموقف الشعبي العُماني من المجازر الصهيونية النازية، واستمراريتها حتى الآن، وتكالب قوى دولية تدعمها بالمال والرجال والعتاد وتشرعن مجازها، وهنا وعيٌ أمنيٌ بحق المكوِّن الشعبي في الوقوف مع قضيتهم الإسلامية العادلة، والتي هي قضية عقدية وجودية لكل مسلم في العالم، وإنه لا يمكن مصادرته، وإنما إدارته.
كما نشيد بوعي الشباب والتزامهم بغاية إدارة المسيرة، فقد أوصلوا رسالة المجتمع للرأي العام العالمي، وعبروا عن الموقف الشعبي بصورة حضارية دون أن يعرقلوا سيرا أو يعطلوا مصالح عمومية أو خاصة، وهذا شأنٌ يمكن تعميمه على مستوى البلاد وفق متابعتنا عبر التواصل الاجتماعي، ومن اللافت إشادة المحتجين في مسيرة صلالة برجال الأمن، وحسن توفير النجاح لها، وقد تكررت الإشادة مرتين حسب متابعتنا الميدانية.
واللافت في التعبير الموقف الشعبي العُماني في كل مفاصله المناطقية، قيادته من قبل فئة الشباب، فقد مشاركتهم في المسيرات والاحتجاجات بصورة غالبة مع حضور الأطفال وكبار السن، لكنهم كانوا عدديًا لافتين، فقد رأينا ذلك في جامعة السلطان قابوس ومؤسسات تربوية عديدة والمسيرات في الميادين والساحات العامة، وهنا يظهر نضوج فكر الإدارة وعدم المنع، ومن خلاله تم كسب الشباب واحتواء قوة غضبهم، وتوجيهها في المسار الصحيح.
المتابع للمواقف السياسية في المسيرات العُمانية، يُلاحظ أن شعاراتها قد جاءت أقوى من ممثليهم في مجلس الشورى الذين أصدروا بيانًا يتماهى مع بيانات الحكومات العربية وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، فقد جاء في نفس سياقاتها السياسية والفكرية ومُفرداتها اللغوية، ونسوا أنهم يمثلون الشعب، وأن هذا الأخير قد أصبح شبابه يتصدر مشهده العام، لذلك جاء موقف الشباب مُعبِّرًا عن موقف الشعب العُماني في أقصى سقوفه وبصورة تاريخية، ونادرًا خليجيًا وربما عربيًا، ففي وقفة طلاب جامعة السلطان قابوس أقسموا بصوت مشترك وقوي مزلزل "بأن يحموا الأقصى المبارك"، بينما اشتركت المسيرات الأخرى في طلب وقف تصدير النفط الخليجي لدول العدوان الخماسي، ورافعين شعارات مثل "غزة غزة أرض العزة" و"أمريكا والإرهاب" وطالبوا المقاومة بضرب تل أبيب.
هذه المواقف الشعبية لم يُجسِّدها بيان مجلس الشورى شكلًا ولا مضمونًا، فقد طالب البيان الإعلام الغربي بالموضوعية والواقعية، وهي صرخة في وادٍ سحيقٍ، فلن يلقى آذانًا صاغية، لأنهم خارج نطاق التأثير الذي يحتاج لقوة في تطبيقه، كما حيَّا البيان صمود الأبطال في غزة، ولن تَعبُر هذه التحية الحدود، فتحية الأبطال قد تجاوزته مجازر النازيين الجدد، وكان على ممثلي الشعب أن يسجلوا لصالحهم أي موقف تاريخي، كأن يطالبوا بوقف المعاهدات والاتصالات مع العدو، وبتجريم التطبيع أيًّا كان شكله.. وقد كان هذا مشروعهم الذي تمَّ وأده بعيد ولادته، لذلك نقول لاعضاء مجلس الشورى موقفكم لا يتماهى مع الموقف الشعبي، والصمت ربما كان أفضل.
ولو بحثنا في انعكاسات مجازر غزة، واستمرار النازية الصهيونية بدعم مباشر ومختلف الأشكال من قبل أربع دول كبرى سالفة الذكر في ظل حالة الخذلان العربية، سنجد أنها تشكل علامة فارقة في مسألتين في غاية الأهمية هما:
أولًا: إعادة تشكيل الوعي الإسلامي/ العربي عامة بطبيعة الصراع العربي الصهيوني، والنتيجة التي يخرج بها هذا الوعي الآن هي أن تلكم الدول الكبرى تقف في مستوى واحد مع الكيان المحتل من حيث العداوة، فلولاها لما بقي للكيان المحتل من وجود بعد طوفان الأقصى، وهذا الحدث يذكرنا بمسؤولية هذه الدول الكبرى التاريخية في احتلال الصهاينة فلسطين، والآن في استمراريته للاحتلال وارتكاب جرائم حرب شملت الأطفال والنساء وكبار السن.. ولن تنسى أبدًا.
بالتالي.. علينا التفكير في الخطوة التالية التي يمكن من خلالها مواجهة هذه الدول؛ إذ علينا البحث عن أدوات مستدامة لمواجهتها من الآن، حتى انتهاء العدوان على غزة؛ فالعدوان لن ينتهي إلّا بعد تحقيق نتائج مستدامة، من هنا يستوجب إيجاد أدوات مستدامة في مواجهة نتائج العدوان المستدامة، وهذا مقال مقبل.
ثانيًا: تشكيل وعي الأطفال والشباب بالقضية الفلسطينية بما يترسخ في قلوب وعقول هذا الجيل الجديد في وقت كانت تطمس فيه القضية في رمال التطبيع، وفي أطماع دمج المحتل في منظومة مصالح اقتصادية إقليمية بقيادة الهند، التي أعلنت تضامنها مع المُحتل دون أن تخشى على مصالحها الضخمة في منطقة الخليج العربي. ومنذ المجازر والانحياز السافر لتلكم الدول للكيان المحتل، بدأ الأطفال والشباب يتساءلون عن أصل القضية تحت دواعي البحث عن الإجابة عن التساؤلين التاليين: كيف تختزل الحرب على غزة بين العدو ومعه تلكم الدول الكبرى ضد جماعة حماس؟ وكيف بهذه الجماعة تقهر أقوى جيوش العالم؟
ستقودهم عمليات البحث عن الحقائق، وأسباب خذلان الأنظمة الإسلامية للمجاهدين إلى ما هو أعمق من إشعال روح الحماس بالقضية الفلسطينية ومكوناتها الإسلامية عند هذا الجيل.. وما هو أكبر من التأكيد على أن القضية لا يُمكن طمسها مهما حاول البعض تجهيل الأجيال الجديدة بخلق وقائع ومعطيات جديدة، وجعلهم غارقين في لقمة العيش اليومية حتى لا يرفعون رأسهم لقضايا إسلامية.. ولن نستبعد أن يكون هذا العمق في الإيمان بدور الفكر في النصر.
هنا سيجدون أمامهم أبواباً مفتوحة بأفكار متعددة.. وهنا الخطورة، لذلك.. لا بُدَّ للدول العربية من رفع مواقفها من أحداث غزة إلى مستوى تطلعات شعوبها، ولتعلم أنها في حقبة زمنية تؤسس المستقبل الاجتماعي- محتوى وأشكالًا- لخمسين سنة مقبلة، فهل تكسب مجتمعاتها أم تعاديها؟