جمل المحامل

 

محمد بن رامس الرواس

لطالما قرأنا وشاهدنا قصص البطولة والكفاح التي تتحدث عن المرأة الفلسطينية منذ النكبة عام 1948م إلى اليوم، ولقد رؤى لنا التاريخ الحديث المُعاصر الكثير من سير المناضلات الفلسطينيات البواسل منذ أن حملن البندقية وهن شابات في مقتبل العمر وأطلقن النار في وجه الاحتلال وهن متلثمات بالكوفية الفلسطينية من أجل نيل الحرية من شرق النهر إلى غربه، لقد ولدت المرأة الفلسطينية المناضلة من رحم هذه المُعاناة منذ 64 عامًا.

مع تصعيد قصف الاحتلال الإسرائيلي للغارات اليومية على قطاع غزة دون توقف ولا هوادة، كانت ولا تزال المرأة الفلسطينية ثابتة ومتمسكة بدارها وأسرتها، ولعل إطلالة سريعة على نبذة مختصرة لسيرة الكاتبة الفلسطينية ابتسام خالد أم الشهداء، والجريحة، والأسيرة، فهي مثل أخواتها المناضلات وقود الصمود الفلسطيني، وهن من يحملن المهمة المستحيلة على عواتقهن، كانت ابتسام دائمًا تطلق مصطلح "جمل المحامل" للتعبير عن ثقل الحمل على أخواتها الفلسطينيات، وابتسام نموذج للمرأة الفلسطينية من خلال سيرة وقصة حافلة بالتضحيات ووجه من وجوه فلسطين المشرفة وصانعة للتاريخ الفلسطيني حاضرًا ومستقبلًا، ولدت في مُخيم للاجئين بمدينة "رفح" وعرفت طريقها للنضال منذ أن كان ابنة 14 عامًا في حقبة الثمانينات وعندما تزوجت وبدأت تنجب تعرض ابنها عمار للاعتقال وابنها محمود للمرض، كانت أماً لأحد عشر من الأبناء وعند مرافقتها لابنها المريض بالمستشفى لم تستسلم بل جعلت من التعليم طريقاً لها لمواصلة كفاحها فأنهت تعليمها، وبدأت تظهر للساحة ككاتبة ومشاركة بالمؤتمرات الدولية والملتقيات التي تتناول حالات الأسرى ومعاناتهم، ومع اقترابها من ذويهم وسماعها للقصص التي تدمي القلوب وما يصاحبها من آثار  نفسية واجتماعية ترجمت ابتسام هذه الأحاسيس على هيئة إصدارات أدبية وشعرية وبحوث مطبوعة ومنشورة، ولها مقولة مشهورة ترددها دائمًا "إنَّ الإبعاد يعادل الموت".

عظيمة هي المرأة الفلسطينية؛ فهي من نوع خاص من النساء في هذا العصر، تعيش في ظروف اقتصادية ومعيشية واجتماعية وأمنية صعبة فهي أم الشهيد، وزوجة الشهيد، وأخت الشهيد وبنت الشهيد، صابرة ومكافحة تعجز الكلمات عن وصفها، فالتضحية رمز لها  وعنوان، ولقد جسدت المرأة الفلسطينية أروع صور التضحية والبطولة في سبيل دينها وأسرتها ووطنها فهي صانعة البواسل، وهي من يدفع الثمن غاليًا عندما تدفع بفلذات أكبادها إلى ميادين الذود عن فلسطين السليبة، وذلك من خلال تربيتهم التربية الصالحة حتى يصبحوا مشاريع شهداء يذودون عن وطنهم المحتل.

إن المرأة الفلسطينية تقوم بواجبات ومهام متعددة شبه مستحيلة فهي فوق كل ما سبق ذكره تعتبر السد المنيع في الحفاظ على الهوية الفلسطينية في ظل ما تعانيه من حرب لطمس هذه الهوية وأولها هوية الأسرة، فهي المكلفة بالصمود في وجه ذلك وأكثر؛ فنضالها لبقاء معالم الأسرة الفلسطينية تحت الوضع الذي نشاهده حاليًا في قطاع غزة هو بحق مهمة شبه مستحيلة إن لم تكن مستحيلة بالفعل، وعندما تكتب بعض الأمهات أسماء أبنائهن على أيديهم لكي يتم التعرف عليهم إذا حدثت غارة إسرائيلية فجأة وصعب التعرف على وجوههم يعتبر بحق غاية في البسالة.

وسط هذه المعركة والمجازر، والقصف الدامي المستمر بلا توقف من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي وفي ظل الظروف الصعبة من شح الدواء والغذاء والماء والوقود وقصف المستشفيات والحصار المُطبق، تقف المرأة الفلسطينية جندية مجهولة شامخة وصامدة ومتحملة كل ذلك وأكثر، فمهما أسهبنا في شرح مهامها المستحيلة التي تقع على عاتقها إلا أننا لن نستطيع أن نوفيها حقها.