ناصر ابوعون
الأمكنة هي ذاكرة الإنسان المعاصر، ولافتة عريضة مخطوطة عليها ذكريات الماضي، وقارب تعبر فيه ذواتنا من القوائم المؤقتة إلى دفتر أحوال المستقبل، وتعرج منه الأرواح إلى عالم الخلود، في رحلة خارج حدود الزمن، وسفر في السديم، وهناك تتبدّل ذواتنا، ونخلع جسدنا الطينيّ، ونتعرّى من أسمال الدنيا، ونرتدي عباءة الخلود، ونعبر قنطرة الصراط المنصوبة ما بين الجنة والنار، فإمّا أن تصعد بنا أنفسنا المطمئنة فوق درجات منصة التكريم الإلهيّ أو تهبط بنا أنفسنا الأمّارة بالسوء إلى دركات الجحيم، خانة الحضور. وفي هذه القصيدة التي نتعرض لها بالفحص والدرس يأتي ذكر ولاية (بوشر) إحدى ولايات مسقط عاصمة سلطنة عُمان والتي تُنسَب إلى "خطامة أبُو بِشْرٍ الطائيّ" من "بني نصر"، وقد تَعرَّض اسم الولاية للإعلال بالحذف (نُطْقًا وكِتَابَةً) تخفيفًا من الاستثقال على ألسنة المتحدثين وميلا إلى الإيجاز؛ فصارت (أبُو بِشْرٍ الطائيّ) تُنطَقُ بالحذفِ (بَوْشَر)؛ وذلك لِعلَة التكرار، وبُغية الاستسهال وهي سمة غالبة تسود في كل لغات العالم، وصفة ملازمة في عِلْم الصّرف العربيّ.
(بوشر) في صفحات التاريخ
عندما تضع أصبعك على الخارطة ستتبدى لك(بُوشَر) وهي تطل من عليائها، وشمال كبريائها المضمخ بالانتصارات على (بحر عُمان)، ومن زاوية أخرى تتراءى أمام ناظريك وهي تسند ظهرها المنتصب فخرا وخيلاءً من ناحية الجنوب إلى جبال عُمان الراسيات التي نفضت عن أكتافها جحافل الطامعين والغزاة، ودحرت عسكر (الحجاج بن يوسف الثقفي) في معركة (البلقعين) على يد الأزديين الأشاوس. ومن منظور الجغرافيا الإنسانية سترى (بُوشَر) بقلبك متكئةً على أكتاف (مطرح) من ناحية الشرق؛ بحنو الأخوّة ورحم القرابة في النضال والمقاومة والتشاركية في دحر الغاصبين البرتغاليين من آخر معاقلهم في معركة كبرى بالقرب من مسجد (الخور والشهداء)، ومن جهة الغرب تتجاور مع ولاية (السيب) الشهيرة تاريخيا باسم (دما) ذاك الثغر الإسلاميّ البحري ورباط المسلمين في عُمان ما بين (177هـ – 280هـ)، ومعقل الأسطول البحري الأول في عهد الإمام غسان بن عبد الله (192هـ -207هـ). ولم تكن ذاكرة (بُوشَر) خُلوًا من المعالم الآثارية حيث تقلّب كثير من الشعراء والفقهاء الطائيين والقدامى والمعاصرين بين جوانحها، وتغنوا بمناخها وملاعب صباهم فيها، وقاموا للصلاة بين أعمدة مسجد "النجار" بها؛ وهو من معالم القرن الثالث عشر، وكم بَرَّدُوا حرارة أجسادهم في (موسم القيظ) المُحْرقة بالسباحة في (فلج بو سمان)، وكم تَنَسّمُوا عبق التاريخ العُمانيّ الزاهر في حوائط (حارة العوراء)، وتصعَّدوا بأبصارهم متأملين في (برج ورولة)، واستمسكوا بجذورهم المتأصلة في أرض عُمان الطيبة فانطبعت روحهم بالتقاليد العُمانية الأصيلة المنبعث أثيرها طوافا بين البيوت والحارات من (سبلة فلج الشام)، ولطالما استبصروا المجد المخبأ في حصن وقلعة "الفتح"، وكثيرا ما استنطقوا التاريخ الصامت في(بيت السيدة ثريا البوسعيدية المشهور بالبيت الكبير أو بيت المقحم)، واستقرأوا النفوس وحفظوا سمات الشخصية العُمانية في وجوه مرتادي (سوق بُوشَر القديم)، ومازالت (بُوشر) حتى يومنا هذا تنمو وتتنامى وتتسع رقعة العمران بين مضاربها وتعجّ أفيائها بالعديد من الشواهد التاريخية، والآثار العمرانية.
ومن يدرس المنتوج الإبداعي وخاصة الشّعريّ لعائلة الطائيين من الأخوة وأبناء العمومة والأحفاد وما خلّفته وراءها من تراثٍ أدبيّ يجد قرية (بُوشَر) التي تسمّت بها الولاية الكبرى حاضرةً في كل زاوية من سيرهم الذَّاتية، ومنتصبة كسارية بحرية في كل مخطوط تاريخي، وعلامة مضيئة في مسيرة أبناء الشيخ القاضي عيسى الطائي وسائر سكانها من القبائل العُمانية الأصيلة والعائلات الشهيرة.
بشراكِ بُوشَر بالبارونيّ
ما إنْ أطلّ سليمان باشا الباروني بطلعته البهية بين أعيان ورُشداء وشيوخ (بُوشَر) الأجلاء يوم الثاني من ربيع الأول 1343 هجرية حتى جرى الشعر (فَلَجًا) عذْبًا رقرقا على لسان الشيخ القاضي عيسى الطائيّ يتدفق بالترحاب وأسارير الفرح والبشرى يسابق في جريانه ثمانيةً وأربعين (فلجًا)؛ يتصدرها (فلج بوسمان) و(النجّار)؛ يتحدّر جميعها من قراب السحب الداجنة في صدر الغيم (ماء طهورا)؛ ينساب من كفّ الله واهب الحياة ويسّاقط من مزون الحكمة على رؤوس الجبال، موائدَ خير، ساريًا في شقوق الطين (فأحيا به الأرض بعد موتها)، وناثرًا الخضارَ بساتينَ وحدائق غناء في موطن النصر والفخار في تلك البقعة المباركة التي مازالت تضيء ركنا قصيا من ذاكرة التاريخ العمانيّ المجيد، حيث تَشَكّلَ وجودها في مخطوط الجغرافيا السياسيّة مع انبلاج فجر الألف الثاني قبل الميلاد. يومها قال الطائي: [(أهلًا بِطلْعةِ بَاسمٍ مِقدَامِ//ليثٍ إذَا اشْتَجَرَ القَنَا بَسّامِ)(أهلًا بِمَنْ حَاطَ الثُّغُورض بِسَيْفِهِ//وحَمَى الحِمَى بِمَدافِعٍ وحُسَامِ)(أهلًا بِمَنْ فَضَّ الجِيوشَ بِعَزْمِهِ//وأرَاقَ فِي العَلْيَاءِ كأسَ مُدَامِ)(أهلًا بِمَنْ عَمَّ السُّرورُ بِوَصْلِهِ//كُلُّ البِلادِ وكُلُّ شَيءٍ نَامِي)].
البارونيّ في بيت الطائيّ
لقد كانت (ولاية بوشر) المحطة الأولى في رحلة المناضل الليبيّ ومؤسس جمهورية طرابلس(سليمان باشا البارونيّ) التي طاف بها حول الولايات العُمانية، وكان بيت (الشيخ القاضي عيسى بن صالح) قاضي قضاة مسقط المعروف باسم (بيت الفوق) في مزرعة (سيبا المال) أول منزلٍ في بوشر يستقبل البارونيّ، ويومها كان القاضي الطائي أحد أعلام عمان وبوشر المبرزين علم من أعلام مسقط وبوشر في القضاء الشرعي وعلوم الدين وقد أَشْرَبَ روحه الحَييّة من بحر الأحكام الشرعية للشيوخ والأقطاب الإباضية، فاستبصر على أيديهم فنون الأحكام علوم السياسة والدهاء، وتمثّل بهم في قضايا الشريعة والإفتاء؛ فجمع في شخصيته بين الفقه والشعر وعلم القضاء، واستوقد ذُبالة المجاهدة من جذوة الانتصارات العُمانية في ذبِّ الأجنبيّ وطرده فاستعرت روحه الوطنية التواقة إلى الريادة والعطاء, فكان جديرا بأن يكون الساعد الأيمن لكبار القضاة والفقهاء، فعلا في العلم نجمه، وارتفع بالإيمان والتقوى قدره، وصار مساعدًا للقضاة بمحكمة مسقط، ثم اعتلى منصة القضاء في ولاية مطرح، وانتهى به المآل أنْ نصّبه السلطان (سعيد بن تيمور) (قاضيا للقضاة)، وأنعم عليه بالعطايا؛ فأهداه مزرعة (سيبا المال)، و(بيت الفوق) بـ(ولاية بوشر) والذي صار – فيما بعد - (سبلة علمية) يرتادها العلماء والمتعلمون من كل حدب وصوب، وفيها استقرّت به الحال، وأعقّبت له عقيلته الفاضلة (خديجة) بنت العلامة (سعيد بن ناصر الكندي) ثلاثة أولاد هم (حمود وهاشم وصالح)، ووهبه الله (حمد)، و(رُقية) من قرينته [ثريا الطائية]، وذراريهم الذين ملأوا الدنيا علما ونورا، ولفّت سيرتهم الحسنة الآفاق.
الطائيّ شاعرٌ مطبوع
عند تقليب النظر في قصيدة (بُشراكِ بُوشر) للقاضي عيسى بن صالح ومقارنتها بقصيدته السابقة (الحبيب الهاجر) التي قالها ارتجالا وقع في خاطرنا أنّ الطائي قد عكف أيامًا على بناء معمار هذه القصيدة وِفْق نظام علاماتيّ مُحكم، فانتقى ألفاظها من مناديس العربية وخزائنها التي لا تنفد، وصاغ صورها من معين خياله الذي لا يعجز، واستقى موسيقاها من بحر الخليل الذي لا ينضب، وشاد مطلعها على مثال عيون المديح والذي هو خصيصة عربية تراثية بامتياز لا تزاحمنا فيها أمة على وجه الأرض وهو من علامات النبالة والأصالة والاعتراف بالفضل لذويه، ودعوة للأجيال المتتالية لاقتفاء أثر القدوة فيه. ومن خلال هذه القصيدة بزغت علامات الشاعرية المطبوعة التي تَنَشَّأَ عليها الطائي، واحتذى فيها نموذج (ابن رشيق القيروانيّ، ج1، ص211) للشاعر الصادق المطبوع القابض على جمر القصيدة؛ فـ"لا يثبت البيت إلا بعد إحكامه في نفسه، وتثقيفه من جميع جهاته، وذلك أشرف للهمة، وأدلّ على القدرة، وأظهر للكلفة، وأبعد من السرقة".
وقد رصدنا في مجمل ديوان القاضي عيسى الطائيّ أربع سمات عامة امتاز بها شعره "المطبوع غير المُتصنّع" وإن كان مدحًا بالأصالة، بعد أنْ صقلته الدُّرْبَة، وشذَّبَتْه الصِّنْعة، وصفّته الهِمَّة، كان قد دأب عليها، وداوم النظر فيها للوصول إلى مبتغاه الأدنى وغايته الأقصى، وتظهر هذه السمات جليةً في قصيدته (بشراك بُوشر) ويمكننا هنا التفصيل والتمثيل عليها:
(أ) المهارة الفذّة في جدْل الألفاظ والأفكار والعاطفة في صورة شعرية مستحدثة تنبو عن التقليد والمباشرة واقتفاء أثر السابقين. ومن روائع ما أنشأه في هذه القصيدة من صور شعرية ضاجَّة بالجمال وتُضربُ كمثالٍ تطبيقي على هذه المهارة قوله: [(وإنْ امتطَى الغوّاصَ يقطعُ لُجَّةً//قادَ الأعادي للفَنَا بِزِمَام)].
(ب) يجري القول في جميع قصائده مجرى الحكمة والمَثَل، فهو قبل أن يبتدع البيت يَقلِّبُ وجوه النظر فيه، ويزنه بميزان الفلسفة، ويعرضه على العقل، ويبحث عن مكامن التأثير التي سيحدثها عندما يقع على آذان السامعين. ومن بديع ما قاله في هذه القصيدة: [(الدِّين ما قَدْ قُمْتَ فيهِ نَاهِجًا//لا ُلْبسَ مِنْطَقَةٍ وشَدُّ حِزَامِ)].
(ج) تنظيم القصيدة في أفكارها، وكل فكرة عامة تُسلّمُ للتالية زمام البدء والاتصال والتواشج في وحدة عضوية متناغمة تقوم على اتحاد المقطع وكل مجموعة من الأبيات تمثل دفقة فكرية مجدولة في السابقة عليها ومتصلة بالتي تليها مع الاحتافظ بالوحدة العضوية لكل بيت بمفرده. ومن صنيع ما قاله في هذه القصيدة بداعةً وابتكارًا: [القومُ قومُك باتحادٍ جامعٍ//وروابطٍ منْ غابرِ الأعوامِ)(فالأهلُ نحنُ وإنْ تناءَتْ دارُنا//لِمَ لا ودينُ الحقِّ خيرُ وِئَامِ)].
(د) الاحتفاء بالأمكنة وتلبيسها رداء الشاعرية، وإضفاء مسوح من عبقرية المكان، وجلال جغرافيته، على صورة الديار في مخيلة القاريء يستنبطها من بين السطور والكلمات. وفي هذا المعنى نقرأ له: [(شَرَّفْتَ "بُوشَرَ" يَا ابْنَ عَبْدِ اللهِ مُذ//أَشْرَقْتَ فِيهَا مِثْلَ بَدْرِ تَمَامِ)(فَبِيَوْمِ وَصْلِكَ "بُوْشَرٌ" قَدْ بُشِّرَتْ// بِالخَيْرِ وَالإِسْعَادِ والإِنْعَامِ)(تَاهَتْ فَخَارًا فَهِيَ مِنْكَ بِغِبْطَةٍ//وَعَلَتْ عَلَى هَامِ السِّمَاكِ السَّامِي)].
الخصائص الأسلوبية للقصيدة
في هذه القصيدة نعثر على مهارة الألفة والتآلف بين المعاني والموسيقى الداخلية والخارجية، والتوظيف البارع للإيقاع والائتلاف المتواشج بينه وبين الألفاظ والقوافي والصور الفنية. ونسوق هنا أمثلة تطبيقية على تحقق من (التآلف) - الذي قال به قدامة بن جعفر لإثبات الشاعرية - بين الألفاظ، والوزن، والقوافي، والمعاني براعة الشاعر عيسى بن صالح الطائي في توظيف الإرداف، والتمثيل والمساواة والإشارة والمطابقة والجناس بغية إحداث الأثر المطلوب في في نفس السامعين.
(1) الإرداف: وهو نقيض المباشرة الفجّة التي تُخرج الشعر من نخبويته إلى مجرى كلام العوام، ومعناه أن يأتي الشاعر بلفظ رديف وتابع يوضح ويبين من خلاله المقصد من المعنى المتبوع. ومن جمال إبداعه في الإرداف قوله: [(فإذا اعتلَى متنَ الصَّواهلِ مُفردًا//فَلَكَمْ لُهامٍ لَفَّه بِلُهَامِ)]. اللهام هو الجيش الكبير، والصاهلة مصدر فاعلة؛ كالصهيل بمعنى الصوت، وجمعها الصواهل، والمراد بها الخيل المسوّمة؛ لأن الصهيل من أصوات الخيل، فلم يذكر الشاعر الخيل، وذكر لازمًا من لوازمه.
(2) التمثيل: وهو استراتيجية وظفّها الشاعر عيسى بن صالح الطائي ليلفت بها انتباه السامعين إلى الفكرة المركزية في قصيدته؛ بغية تسليط الضوء المكثف عليها، فرأيناه يورد كلاما يشير إلى مقصده، وإن كان يحمل معنى مغايرًا لما أراد. ومن براعة التمثيل الذي مرَّره الشاعر عبر المعنى الآخر والكلام المقصود، واستطاع من خلاله توجيه الانتباه إلى مراده قوله: [(قُدْتَ الخميس إلى الأعادي راغبًا//في الله منتظمًا بِحسن نظامِ)]؛ فـ"الخميس" هو الجيش كما ورد عند أبي زيد الأنصاريّ في كتابه (النوادر في اللغة 252). والشاعر هنا أتى بمعنى آخر (منتظما بحسن نظام) قاصدًا تنظيم قوات المقاومة الشعبية في طرابلس الغرب المناهضة للاستعمار الإيطاليّ.
(3) المساواة: وهي استراتيجية بلاغية تشبه الميزان يوظفها الشاعر الحاذق ولا تتأتى لغيره من الشعراء الغارقين في الصنعة الشعرية، ويكتسبها الشاعر المطبوع بالمداومة في مطالعة كتب اللغة وقراءة إبداع السابقين والمعاصرين له، فنعثر في قصيدة الشاعر على مناطق مضيئة أبان فيها عن براعته في توظيف ألفاظ مساوية للمعاني بغير تزيِّدٍ أو زيادةٍ أو نقصان. على نحو ما نقرأ في هذا البيت: [(إنَّا ليَجْمعُنا بِكُم صِدْقُ الإِخَا//وأَواصرٌ كأواصِرِ الأَرْحَامِ)]. وهنا نلحظ براعة القاضي عيسى الطائيّ في توظيف استراتيجية (المساواة) عبر الانتقاء المتقن لكل لفظ يناسب المعنى ويوازنه في قوله: (صدق الإخاء)؛ ففضيلة (الصدق) ملازمة وموازنة لمعنى (الأخوّة)، وفي قوله: (أواصر الأرحام)؛ فـ(الأرحام) هي محل (آصرة القربى) وتُوازنها لفظا ومعنى.
(4) الإشارة: وهي من علامات النبوغ والابتكار لدى الشاعر، وتبين عن إبداعه المبين في توظيف الألفاظ وفق رؤيته الفنية، بل والاشتباك معها والنظر إليها كاللبنات التي تنتظم في معمار قصيدته؛ فلكل لفظة موضعها بما يُسهم في إحداث نوع من السيمترية والتناغم الجمالي والتماسك البنائي للقصيدة فنراه يوظف ألفاظا قليلة في مبناها كثيرة في معناها، وبتعبير أكثر توضيحا ينتقي ألفاظا تشبه النواة داخل الذَّرة ومن خلال تفاعلاتها داخل النص تحدث عملية انشطار لمعانٍ لا متناهية. ومن ثَمَّ فقد اختار شاعرنا لختام قصيدته بيتا يجري مجرى الحكمة والمثل ويشتمل على لفظين مكثفين(رابط - جامعة) تنسال منهما آلاف المعاني.[(القومُ قومُك باتحادٍ جامِعٍ//وروابطٍ من غابرِ الأزمانِ)(فالدِّينُ أعظمُ رابطٍ بينَ الوَرَىَ//وأَجَلُّ جَامِعةٍ لِحُسْنِ خِتَامِ)]. فـلفظة (الرابط): أشارت إلى رابطة الدين بين الشعوب الإسلامية، ورابطة الدم، ورابطة الجغرافية، ورابطة اللغة، ورابطة الأخوة، ورابطة التراث.. إلخ. ولفظة (جامعة) أشارت إلى الاتحاد والقرابة، والعرق، والجنس، والقومية،.. إلخ.
(5) المجانسة والمطابقة والمقابلة والمرادفة: فأمّا "المجانسة" فمن خلالها نعثر على ألفاظ وتراكيب لجملٍ وألفاظٍ تجانست اشتقاقا وإن اختلفت في بعض أجزائها؛ لكنها تضمنت معانٍ متغايرة ومنها قول الشاعر:[(باسمٍ–بسّامِ)(شرَّفتَ- أشرقتَ)(بُوشر–بُشِّرتْ)(السِّماك–السامي)(منتظمًا–نِظامِ)(الرُّبُوع-رَبْعُك)(القومُ–قومُك)]، أمّا "المطابقة" فقد تحققت في قوله: [(الدِّين ما قَدْ قُمْتَ فيهِ نَاهِجًا//لا ُلْبسَ مِنْطَقَةٍ وشَدُّ حِزَامِ)]، وأمّا "المرادفة" فنعثر عليها في أكثر من موضع في قصيدة [(بشراك بوشر)(أشرقت – بدر)(قمت – قيام)(اتحاد – جامع – روابط)(الإخاء – الأرحام)(تصبو – شوق)].
(6) انتقاء البحر الشعري الذي يوائم الغرض والعاطفة: انتقى الشاعر عيسى بن صالح الطائي (البحر الكامل) الذي يماثل (البحر الوافر) في تفعيلاته (مستفعلن)، حيث تتردد التفعيلة (متفاعلن) ثلاث مرات جهيرةً وواضحةً، تتناسب والقصيدة الترحيبية المدحيّة، وجلال وعظمة الممدوح، وتوافق القصيدة مع النبرة الجماهيرية المجلجلة، والنزعة الخطابية التي يقتضيها الموقف فضلا قدرة هذا البحر على إعطاء مساحة واسعة للشاعر للتعبير عن خلجاته المكتومة، ونفثاته المكلومة.
(7) تكرار المقاطع والألفاظ والحروف: لقد ارتكز الشاعر في قصيدته على بنية التكرار للموتيفات الصوتية، وخاصة في مطلع القصيدة؛ حيث نلحظ تكرار الصيغة الترحيبية (أهلا) أربع مرات في صدر كل بيت ملتحقا بها حرف (الباء)، فضلا عن بعض الكلمات المتناثرة في فضاء القصيدة؛ مثل (كم الخبرية) و(الدين)(تصبو – يصبو)(الربوع – ربعك). وللتكرار غايات عديدة في هذا المقام من أهمها: إشاعة جو من الموسيقى التصويرية مع ربطها بالمستوى الدلالي للموتيفات المكررة، ثم إحداث نوع من الربط والانسجام بين الصوت والمدلول يسهم في استحضار الأثر النفسي في إطار التركيز على مزايا الممدوح عبر خاصية التطريب الذي يتأتى عنه ما يسمى بالتراكم الصوتيّ المصحوب بكثافة شديدة للدفقة الشعرية. هذا فضلا عن قدرة التكرار الصوتي على استحداث إيقاعا موسيقيا يلعب دور الحامل للدلالة، ويكشف عن الدينامية التي تتمتع بها اللغة الشعرية، وتدفع القاريء لسبر أغوار النص واستنباط واكتشاف رؤية الشاعر من بين طبقات الفونيمات الصوتية المتطابقة.