د. عبدالله باحجاج
عندما يكشف جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة عن تجاوزات في قضايا مُهمة، ومن بينها قضايا التعمين والفصل التعسفي والتلاعب في تذاكر الطيران العُماني، واستمرار شركات في العمل رغم انتهاء التراخيص... إلخ، فإنَّ هذا يدعونا الى طرح التساؤل الذي عنوَنَّا به هذا المقال؛ بمعنى: هل سيُحال كل من تثبت عليهم التهم إلى المُحاكمة؟ وهل نتأمل أن تكون علنية؟
القضية هنا تستوجب المساءلتين السياسية والقانونية، وإلّا فقد يُفسَّر الكشف على أنه امتصاص للرأي العام، وأن ما كُشف عنه هو مجرد ما ينبغي أن يطلع عليه الرأي العام، أو أن المحاسبة تتم بعيدًا عن العلنية، وهنا سيظهر المشهد بأن المحاسبة تجري في سرية تامة. وبلادنا في حقبة زمنية تستدعي تطبيقاً مثالياً للشفافية والمساءلة والمحاسبة تكون في موازةِ نجاحها في سد أبواب التبذير وصرف الأموال العامة من عدة مصادر، وطبيعة مرحلة الوطنية تحتم فرض منظومة ردع مستقلة للحفاظ على المال العام، وتعزيز الثقة الاجتماعية بأن المال العام يُصرف في أمكنته وأزمنته ووفق خططه واستحقاقاته، وأن الأجندات الوطنية العاجلة والمستقبلية تُطبَّق دون تقصير أو تأخير وبنزاهة. والمثالية في الرقابة المستقلة نجدها هنا في إشراك مجلس الشورى في الرقابة، وهو اختصاص أصيل له؛ كونه يُمثِّل منتخبين من الشعب، ويكونون دائمًا في موقع مُنفرِد ومُتفرِّد بين الشعب ومؤسسات الوطن الحكومية والرسمية.
والاستقلالية هنا خاصية فصل السلطات، وإلّا فإنها جزءٌ أساسيٌ من النظام الرقابي للبلاد، وهي الآن مطلب سياسي ووطني، سنضمن من خلاله سرعة تنفيذ الاستراتيجيات والخطط والمبادرات، ونضمن احتواء التوترات مُسبقًا، وإدارتها من خلال مجلس الشورى كونه إحدى المؤسسات الدستورية، وكل من يُعمل فكره في أعماق التحولات البنيوية الاجتماعية منذ آخر ثلاث سنوات، ويُحلل آفاق استدامها، ومن ثم اختلالاتها الاجتماعية غير المسبوقة، سيرى أن التمكين الرقابي لمجلس الشورى هو أحد خيارات الدولة الأساسية لإدارة ضغوط مقبلة- لا محالة- ودونها ستفتح خيارات غير مؤسسية ودون أن يحكمها قانون أو ضابط وطني. والفارق بين الخيارين أن إدارة الضغوط وفق خيار مجلس الشورى سيكون أفقيًا وفي إطار مؤسسات الدولة الدستورية، وحاكمها سيكون القانون، وبذلك ستكون الضغوط دائمًا تحت السيطرة، على عكس الخيار الآخر الذي ستكون ضغوطه رأسية، ومُسببة لصداع سياسي.
وهنا منطقة تفكير عميقة نستشرفها منذ ثلاث سنوات، وتحتاج لاستيعاب سياسي عميق، ومن ثم انفتاح عاجل باتجاه خيار رقابة مجلس الشورى القانونية، وهنا نرى أن بقاء الهندسة السياسية للشراكة بين الحكومة ومجلس الشورى في صيغتها الراهنة تحتاج لتطور جديد ومنفتح بوعي المنظور الأفقي لإدارة الضغوط المقبلة، والتي يبرز من خلالها مجلس الشورى كأهم أداة لهذه الإدارة، وبالتالي، فإن التساؤل يدور الآن حول عوامل نجاح رقابة مجلس الشورى لكي يتمكن من إدارة الضغوط بمهنية وبمسؤولية وطنية، علمًا بأنَّ الرقابة عادة ما يكون لها نصيب الأسد في عمل البرلمانات.
وهنا يبرُز لنا جهاز الرقابة المالية والإدارية كأهم تلكم العوامل، فهو يملك الخبرات والكوادر المتخصصة، وله تاريخ طويل في الرقابتين المالية والإدارية، وهو كذلك على خلفية بحجم الفساد، فقد كُلف بمهمة هيئة مكافحة الفساد، ومتابعة تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بعد أن انضمت إليها السلطنة عام 2013، وهو أهم الوسائل لنجاح رقابة مجلس الشورى بصورة مهنية واحترافية، وعن طريق معلومات الجهاز الدقيقة والمكشوفة سيتم تحديد أيٍ من الأدوات الرقابية التي يستوجب تحريكها.
ولو وقفنا عند ما كشفه جهاز الرقابة المالية والإدارية مثل: انخفاض التعمين في "بعض" الكليات وارتفاع الكوادر التدريسية الوافدة في "أغلب" التخصصات، سنجد أن أدوات الاستجواب والمناقشة ستتفعل فورًا، وهنا يتعين الاعتداد مجددًا بمثل هذه الأدوات تفعيلًا لديناميكية الرقابة لمجلس الشورى، كأن يحق له استدعاء الوزراء لمناقشتهم أو مساءلتهم في قضايا جزئية مُهمة، مثل القضايا التي يكشفها الجهاز عوضًا عن البيانات الوزارية العامة والشاملة، في ظل تزاحم الأولويات الوطنية ومبادراتها، فيُستدعى للمجلس الوزراء المشرفون على هذه القضايا لمعرفة الأسباب وحلها سريعًا، عوضًا عن تركها تتراكم وتستفحل؛ مما يزيد القضايا استفحالًا واحتقانًا اجتماعيًا.
تلكم قضايا تمس قضية الباحثين عن عمل، وهي قضية الوطن الأولى، وما طرحناه بين علامات التنصيص سابقًا، يعني أن قضية التجاوزات ليس حالات محدودة، وإنما يُعبِّر عن عدد كبير بمضامين عميقة، ولنا تصوُّر مدى تأثيراتها على قضية الوطن الأولى، وهنا تبرز رقابة مجلس الشورى كوسيلة ضغط إيجابية على الأداء العام في قضايا وطنية مُلحّة وعاجلة، كما الحاجة لهذه الرقابة لضمان تنفيذ خطط اجندات الدولة الاستراتيجية خلال الخمس سنوات المقبلة، وهذه الفترة المتوسطة الأجل هي من أهم فترات مراحل التأسيس. فلدى بلادنا أجندات استراتيجية يتوقف عليها أمننا القومي بمفهومه العام والشامل، مثل: خطط الفضاء والطائرات المُسيّرة والهيدروجين الأخضر؛ لذا الرقابة على عملية تأسيس الجيل التقني لهذه القطاعات الاستراتيجية هي أولوية كبرى لا يمكن التهاون فيها، ولا بُد من المشاركة في ضمان تحقيقها.
كما تحتمها كذلك قضية إنتاج اقتصادنا الجديد لفرص العمل، وهو يحتاج الآن لإرادة سياسية للربط بين الجانبين، وإذا لم يكن هذا الربط قائمًا بينهما، فلن نتمكن من توفير آلاف من فرص العمل سنويًا، وستظل قضية الباحثين مصدر التوترات الدائمة، وهذا من التداعيات المتوقعة، تُعلي من شأنها كذلك انكشافات جهاز الرقابة المالية والإدارية سالفة الذكر، وقد زرتُ إحدى كليات التقنية، وكذلك بعض الشركات الكبرى، ووجدت الأعداد الكبيرة للوافدين في مختلف التخصصات، فأين برامج الإحلال والتعمين، ومن المسؤول عن الإخفاق فيها؟ وكيف تتم مساءلتهم ومحاسبتهم؟