الذكاء الاصطناعي.. ثورة في العمليات الحكومية

 

فهد بن صالح الفهدي

في بداية عام 2023، فجَّر تطبيق "شات جي بي تيChatGPT " عالم الذكاء الاصطناعي بأداة الدردشة الذكية، مما جعله شكلًا جديدًا من أشكال البحث والتطوير ليعلن (بشكل غير رسمي) أن عام 2023 سيكون ثورة الذكاء الاصطناعي، وتوالى بعد ذلك ظهور التقنيات المختلفة التي تستند إلى مختلف تقنيات الذكاء الاصطناعي ليستفيد منها الأفراد والمنظمات.

لقد منحنا العصر الرقمي مجموعةً من الأدوات والتقنيات، ولكن القليل منها كان بمثابة تحوُّل واعد مثل الذكاء الاصطناعي. في جميع أنحاء العالم، تتبنى الحكومات الذكاء الاصطناعي لتبسيط العمليات، والتنبؤ بالتحديات، وتحسين حياة مواطنيها. سأطرح هنا بعض الأمثلة البارزة لبعض دول العالم في اهتمامها بالذكاء الاصطناعي في حكوماتها.

في سعيها لتعزيز الصحة العامة، قامت الولايات المتحدة الأمريكية متمثلة بوزارة الصحة والخدمات الإنسانية بتسخير الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بتفشي الأمراض المحتملة وتحديدها، وبالتالي العمل بشكل استباقي للحد من انتشارها. وفي الوقت نفسه، تحوَّل مختبر أبحاث الجيش إلى الذكاء الاصطناعي؛ حيث توفر هذه التقنية مؤشرات لاتخاذ القرارات الفنية من أجل الصيانة؛ حيث تساعد الصيانة التنبؤية للمركبات على تجنب الأعطال المفاجئة في الميدان.

أما في سنغافورة والتي تعتبر منارة للابتكار التكنولوجي فإنَّ مبادرتها "الأمة الذكية   Smart Nation" تعدُّ بمثابة شهادة على ذلك؛ حيث توفر المشاريع المعتمدة على الذكاء الاصطناعي رؤى في الوقت الراهن حول وسائل النقل العام وحركة المرور، مما يضمن تنقلات فعَّالة لمواطنيها.

علاوةً على ذلك، أدى دمج روبوتات الدردشة المدعَّمة بالذكاء الاصطناعي في منصة الهوية الرقمية الوطنية (NDI) إلى تعزيز مشاركة المستخدم وتجربته بشكل كبير.

وليس بعيدًا، فقد عزَّزت دولة الإمارات العربية المتحدة مكانتها في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال تعيين وزير دولة رسمي للذكاء الاصطناعي، مما يضمن الإشراف على تكامل الذكاء الاصطناعي عبر القطاعات على أعلى مستوى. وفي أكتوبر 2017، كشفت حكومة الإمارات العربية المتحدة عن "استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي". وتمثل هذه المبادرة الحقبة التالية لمرحلة الحكومة المتنقلة (mGov)، مما يؤكِّد على مستقبل غنيٍّ بالخدمات والقطاعات والمشاريع التأسيسية المتنوعة. كما تهدف المبادرة الطموحة "مختبر الذكاء الاصطناعي AI Lab" إلى إحداث تحوُّل في المجالات الحيوية مثل: الطب والطاقة المتجددة والمياه وحتى استكشاف الفضاء.

أصبحت المملكة المتحدة عبر خدمة الصحة الوطنية (NHS) رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي الطبي من خلال نشر أنظمة يمكنها تشخيص الأمراض، بما في ذلك أمراض العين والسرطان، في مراحل مبكرة، وبالتالي زيادة فرص نجاح العلاج. وبالتوازي مع ذلك، يضمن إنشاء مركز أخلاقيات البيانات والابتكار تقدم رحلة الذكاء الاصطناعي في البلاد بشكل مسؤول وأخلاقي.

ولا يمكن أن ننسى ثاني أقوى اقتصاد في العالم: الصين؛ حيث حصل التخطيط الحضري في مدن مثل هانغتشو على عملية تجميل تكنولوجية من خلال أنظمة إدارة حركة المرور المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، مما يضمن تدفُّق حركة مرور أكثر سلاسة وتقليلًا للازدحام. وفي مجال الرعاية الصحية، تساعد أنظمة الذكاء الاصطناعي الآن في قراءة الصور الطبية وتسريع عملية التشخيص وتعزيز الدقة.

وفي الهند، يشهد قطاعًا التعليم والزراعة، وهما حجر الزاوية في المجتمع الهندي، تحوُّلات ناجمة عن الذكاء الاصطناعي؛ حيث يهدف تعاون ولاية أندرا براديش مع "مشروع سانجام" التابع لمايكروسوفت إلى مكافحة معدلات تسيب الطلاب من المدارس. وفي الوقت نفسه، يستفيد المجتمع الزراعي من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي يمكنها اكتشاف الآفات والأمراض، مما يساعد على حماية حقولهم.

وفي أسفل الخارطة تستفيد الحكومة الأسترالية من الذكاء الاصطناعي لتحسين تقديم الخدمات العامة؛ سواء أكان الأمر يتعلق بتبسيط عملية تحديد الأهلية لمختلف البرامج الاجتماعية أم بتسريع معالجة طلبات التأشيرة، ليضمن الذكاء الاصطناعي تطور العمليات الإدارية جنبًا إلى جنب مع العصر الرقمي.

لم يعد دمج الذكاء الاصطناعي أمرًا نظريًا بالنسبة لهذه الحكومات، ولا تؤكد هذه الأمثلة على الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي فحسب؛ بل تؤكد أيضًا كيف أصبح بالفعل جزءًا لا يتجزأ من الحوكمة الحديثة.

ومواكبةً لتقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وزيادة سهولة الوصول إليها، من الواضح أن الحكومات ستستمر في البحث عن تطبيقات مبتكرة لتقديم خدمة أفضل لمواطنيها. إن مستقبل الحوكمة، المدعوم بالذكاء الاصطناعي، يَعِد بأن يكون فعالًا واستباقيًا وتحويليًا.

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد اتجاه تكنولوجي؛ إنها قوة تحويلية تعيد تشكيل المشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للقرن الحادي والعشرين؛ لكي تتمكن الحكومات من أداء دورها كأمناء على المصلحة العامة بفعالية؛ حيث لم يعد دمج الذكاء الاصطناعي في استراتيجياتها أمرًا اختياريًا، بل أصبح أمرًا حتميًا.

ولا شك أن اتخاذ إجراءات استباقية بشأن تكامل الذكاء الاصطناعي يضمن أن تظل الدول قادرة على المنافسة وذات صلة ومستعدة لمواجهة تحديات وفرص المستقبل.

والسؤال هنا: أين العرب من الذكاء الاصطناعي؟ تقول الباحثة في مجال الذكاء الاصطناعي، سالي حمود "إن هذه التكنولوجيا تتطور بدرجة كبيرة جدًا، وفي العالم العربي هناك تباين كبير بين الدول في تعاملها مع الذكاء الاصطناعي؛ حيث هناك دول مثل السعودية والإمارات وقطر تتقدم بسرعة كبيرة في هذا المجال". وأضافت "البلدان الأخرى متواضعة في هذا المجال".

ويكمن أحد أهم التحديات في تأخر الحكومات العربية عن تبني الذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات الحديثة هو التحدي المتمثل في عدم الإلمام الكامل لدى القيادات بفعالية الذكاء الإصطناعي، والافتقار إلى التنفيذ الفعَّال والذي يتطلب اتباع نهج متعدد الأوجه، والحل لمعالجة هذا التحدي يبدأ من التثقيف والتوعية، قبل أي شيء آخر، هناك حاجة إلى تثقيف القيادات -في مختلف القطاعات- حول أهمية الذكاء الاصطناعي ومخاطره المحتملة؛ وذلك سواءً كان عبر تنظيم ندوات وورش عمل ومؤتمرات تضم خبراء الذكاء الاصطناعي من الأوساط الأكاديمية والصناعة والحكومات الأخرى.

ومن الأهمية بمكان تعيين فريق عمل مخصص للذكاء الاصطناعي كإنشاء فريق أو قسم متخصص مسؤول عن استراتيجية الذكاء الاصطناعي يمكن أن يضمن الاهتمام المستمر بتطويرها وتنفيذها. ويجب أن يضم فريق العمل هذا متخصصين في الذكاء الاصطناعي، خبراء في مختلف المجالات، ومفكرين وممثلين من مختلف القطاعات الحكومية.

أما التحدي الأخر فهو تنشئة أجيال حديثة تواكب ثورة الذكاء الاصطناعي لتقودنا مستقبلا نحو استثمار فرص عظيمة، وهنا يتحتم أن ينشأ تخصص "الذكاء الاصطناعي" في الكليات والجامعات، وأن يُدرج ضمن التخصصات الاستراتيجية في الابتعاث إلى الخارج، حينها ستتكون لدينا الكفاءات جيلا بعد جيل في هذا المجال وتساهم بشكل فعال في نمو الوطن في هذه الثورة التقنية العظيمة.

إنَّ الانطلاق بهذه الحلول ستكون بمثابة بداية فعالة نحو التغيير، إذ سيشكل الوعي العام والقيادي بالتحديد إنجازًا في رسم استراتيجيات وقرارات مهمة متعلقة بالذكاء الاصطناعي، ولو طُلب من كل جهاز حكومي أن ينطلق بمبادرة واحدة سنويًا في هذا المجال لحل إشكالية أو تسهيل أنظمة لوجدنا حراكًا حكوميًا فعّالًا، وذلك سينعكس على القطاعات المختلفة وعلى تفكير الأفراد؛ مما سيرفع من انتاجية العمل الحكومي وسيرتقي بالفكر الحالي.

تعليق عبر الفيس بوك